بالأمس القريب أفل نجم ثاقب من رجال الرعيل الأول، وواحدٌ من المخلصين الذين خدموا دينهم ومليكهم وبلادهم لأكثر من ستين عاماً بكل تفانٍ وإخلاص، وتقلد عدة مناصب إدارية ومالية ذات شأن وكان آخرها رئيساً للديوان الملكي.
|
إنه الشيخ محمد بن عبد الله النويصر والمعروف بلقبه المميز لدى الملوك ب(ابن نويصر) منذ عهد الملك فيصل الذي اختاره لتولي هذا المنصب الحساس منذ عام 1384ه - 1964م عندما تسلم الملك فيصل سلطاته في الدولة السعودية وأصدر أول قرار بإسناد منصب المكتب الخاص في الديوان الملكي إلى ابن نويصر للإشراف على الشؤون الإدارية والمالية معاً، وكان الملك فيصل يثق به بعد أن عمل في خدمة الفيصل منذ أن تولى منصب نائب الملك عبد العزيز في الحجاز.
|
وكلمة حق تقال إن الفقيد ابن نويصر قد أعطى عمله عطاءً مخلصاً موصولاً لمدة ستة عقود من حياة المملكة العربية السعودية، منذ تأسيس الدولة في عهد المؤسس الراحل الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، وبالمقابل فقد أعطت قيادات المملكة من الملوك الذي عمل ابن نويصر بمعيتهم في هذا المنصب الحساس في الديوان الملكي الشيء الكثير نظراً لإخلاصه وتفانيه في خدمة الوطن.
|
وكان الفقيد صادقاً في كل مسؤولياته محافظاً على عمله الإداري المميز، ولم يتقلب حسب الظروف بهدف مصالح ذاتية، بل كان شعاره الإخلاص وبذل الجد في تحمل المسؤولية والإحسان لأصحاب الحاجات في المجتمع السعودي وفق التوجيهات التي يتمتع بها من قيادات المملكة وملتزماً بالباب المفتوح الذي فرضه الملك عبد العزيز.
|
إن الدين الإسلامي قد فرض وألزم أمة الإسلام أن تتحدث عن محاسن الأموات، والحقيقة أن الفقيد ابن نويصر له محاسن كثيرة لا تُعد ولا تُحصى، ولم يرتكب سيئة واحدة في حياته العملية.
|
ومن خلال الصفات المميزة لابن نويصر واختصاصاته الإدارية والمالية جعلته يتطور في أعماله باستمرار وبدرجة عالية من الدقة، لذلك كان علماً من الأعلام يعرفه الخاص والعام واسمه على كل لسان وله مكانة في نفس معارفه وهو المؤتمن على أموال القصور الملكية، وكاتم أسرار الملوك ملتزماً بقراراتهم وبالقسم الذي ردده أمامهم بعدم البوح بأسرار الدولة.
|
عندما أكتب عن الراحل ابن نويصر وشخصيته الفذة فإنني تعرفت على الفقيد منذ أربعة عقود وبالتحديد في عام 1387ه الموافق 1967م من خلال زياراتي المستمرة للمملكة العربية السعودية ومن خلال عملي في الصحافة ولتغطية المناسبات التي شهدتها المملكة في عهد الملك فيصل طيب الله ثراه ورحلاته في العالم الإسلامي والدولي ولتقريب وجهات النظر بين العالم الإسلامي والعالم الدولي والاعتراف بإلهنا الواحد والتعاون المشترك وعرض الحلول العملية للقضية الفلسطينية بحكم أنها قضية مشتركة بين العالمين الإسلامي والمسيحي وعلاقاتهما متلازمة بين الديانتين.
|
وأتذكرُ دوماً الجلسات الليلية التي كانت تجمعني مع ابن نويصر والدكتور رشاد فرعون مستشار الملوك في ليالي الطائف في العقدين السادس والسابع الميلاديين في فندق الطائف صاحبه الشيخ عبد القادر إدريس وهو يطل على ساحة فسيحة وهو مقر إقامة الجهاز الوظيفي للديوان الملكي خلال فترة الصيف بحكم أن الطائف كان المقر الصيفي للدولة السعودية في عهد الملك فيصل.
|
وكنت التقي مع الدكتور فرعون وابن نويصر بعد العشاء في جلسة ثلاثية عند مدخل الفندق وفي السماء الطلق النقي.
|
ويجري الحديث عن الثقافة والأدب دون البحث في السياسة وتنتهي الجلسة بأكل الصبير والرمان الطائفي المشهور وتعده إدارة الفندق ويوضع في الثلاجة ثم يقدم لأكله.
|
كيف أنسى هذه الليالي الصافية والهواء النقي وما يصاحب ذلك من زخات المطر في مدينة الطائف الجميلة وهذا الجو كان يساعد على راحة الجسم والبال للفقيدين فرعون وابن نويصر بعد عمل وجهد في الديوان الملكي مع الملك فيصل ودراسة كل ما قدم لجلالته من معاملات خارجية وداخلية واتخاذ القرارات بشأنها حسب توجيهات الملك فيصل رحمه الله وكما علمت بأن الملك فيصل لا يريد أن تبقى معاملة واحدة دون قرار لليوم التالي.
|
كما كان كل من الدكتور فرعون وابن نويصر يشعران دائماً بالطمأنينة والسكينة وهدوء النفس المطمئنة والقلب المتصل بالله ويتذكر كل منهما قوله تعالى في سورة الرعد: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
|
لقد كان كل منهما يتمتع بقدر كبير من الطاقة العملية والنشاط الدائم بحضور جلالة الملك فيصل وليحقق كل منهما أهداف مسؤولياته ومن خلال الإيمان بالله لأن القرآن الكريم يقوم على توجيه النجاح في الدنيا والآخرة.
|
ويقول الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه (إحياء علوم الدين) الذكر النافع هو ما كان مع حضور القلب (أي التركيز على الذهن والرياضة العقلية المستقيمة).
|
وهنا أردد قول الشاعر العربي الكبير عمر أبو ريشة:
|
وجدودي، المح الدهر على |
ذكرهم يطوي جناحيه جلالاً |
بوركت صحراءهم كم زخرت |
بالمروءات رياحاً ورمالاً |
حملوا الشرق سناء وسنى |
وتخطو ملعب الغرب نضالاً |
لقد رحل رجالات الديوان الملكي السابقين إلى دار الآخرة وانطوى في مخزونهم الفكري بكل تفاصيله والكثير من أسرار القيادات السعودية السابقة رحمهم الله وهي أسرار لا يعرفها إلا القليل النادر من رجالات الأسرة الحاكمة وكلها أعمال مضيئة من تاريخ المملكة العربية السعودية وفي خدمة القضايا الإسلامية والعربية.
|
وبسبب توسيع النشاط في الديوان الملكي وضرورة مستلزمات العمل أصدر الملك فهد بن عبد العزيز أمراً يفصل شؤون مجلس الوزراء عن رئاسة الديوان الملكي واختير صاحب السمو الملكي الأمير عبد العزيز بن فهد وزيراً لشؤون مجلس الوزراء وأطلق على رئاسة الديوان الملكي هذا اللقب الجديد بدلاً من رئاسة المكتب الخاص.
|
لقد انتقل معالي الشيخ محمد النويصر إلى دار البقاء وهو مطمئن في الرضا من النفس، وهو ما ساعده على فرض محبة الآخرين ومن صفاته عدم الاستعلاء على الآخرين، فالأيام المتعاقبة لها تاريخ ولكل شخص له تاريخ وللفقيد الغالي له تاريخ وموثق في أرشيفه الوظيفي ويستحق ذكره لأنه كان عجباً في عمله واحاطته واستقامة ذاكرته التي لم تلدها الأيام وتوقد ذهنه الذي لم تطفئه السنون وكان فهرساً حياً لكل شخصية سعودية سواء كبيرة أو صغيرة.
|
وبعد عرض هذه الخواطر السريعة عن الفقيد ابن نويصر وذكر بعض مزاياه الطيبة التي لا تُنسى أجد نفسي أن أردد قول الشاعر العربي اللبناني أميل نخلة الذي قال:
|
بت من فقد اخلائي ومن |
كثرة التوديع موصول البكاء |
عبروا الجسر إلى الأخرى وقد |
بعد الركب وقد خف الحداء |
كم خيال لهم في ناظري |
بازاء الليل قد راح وجاء |
ربما أطبقت أجفاني لكي |
أغمر الوهم واستبقي اللقاء |
رحمك الله يا أبا عبد الرحمن وأسكنك فسيح جناته واعلاها منزلة وأسأل الله أن يعوض البلاد وأن يمن على المملكة العربية السعودية المخلصين لوطنهم وقياداتهم ودينهم السماوي المتسامح ولاحول ولا قوة إلا بالله.
|
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)،
|
و(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
|
|