لا شك أن اللغة هي الوطن الحقيقي للإنسان، وهي ألصق شيء بالذات، وهي وعاء الحضارات فالحضارة لا تفنى بفناء التسلسل الزمني وإنما بفناء لغتها. ولذلك فقد كانت اللغة وإحياؤها وترسيخها في نفوس الناشئة من أعظم الأمور التي شغلت الغيورين من العلماء والمفكرين في أي مجتمع من المجتمعات.
وباعث حديثي هذا هو موضوع محاضرة ألقاها الأستاذ الدكتور راشد المبارك بعنوان: (التعليم بغير اللغة الأم) والتي تأتي امتداداً لموقفه البارز الذي أبان عنه قبل أعوام قليلة عندما صدر قرار من وزارة التربية والتعليم يجيز للمدارس الأهلية التعليم بغير اللغة العربية.
وقد كان للأستاذ المبارك رؤية طرحها على صفحات هذه الصحيفة الغراء بمقال بارز تحت عنوان: (حتى لا تتصدع الحصون). إلا أن هذه الدعوة وهذا النداء لم يجدا كبير اهتمام وتفاعل وتجاوب فيما يبدو لي إلا من قلة قليلة من الأفراد.
وقد جاءت المحاضرة الهادفة مثيرة للفكر، كاشفة للخفاء حول بعض أمور وتساؤلات عدة منها:
* دور اللغة الأم في إيصال المعرفة إلى الناشئ، فالمتعلم يكون تميزه ونبوغه إذا كان تعليمه بلغته التي يفهمها ويحس بها وأنه إذا تعلم بلغة أجنبية فهو إما أن يكون مضيعاً للغته الأم أو يكون على أقل احتمال ضعيفاً في نبوغه وفهمه وتميزه.
* ثم هل عرف البشر لغة مفردة أجمعوا على تميزها بخلق أو تحفيز أو إبداع وإيقاظ المواهب؟ والجواب أنه لا تميز للغة عن غيرها في صنع حضارة أو الرقي لنهضة فأي أمة تستطيع أن تنهض دون تغيير لغتها؛ فألمانيا نهضت وبرزت وأصبحت في عداد دول العالم المتقدم بعد دمار الحروب دون أن تغير لغتها، واليابان بعد كوارثها المفجعة ورميها بالقنابل نهضت نهضة ساحرة وتبوأت في التقانة والصناعة مبوأ شرف ورفعة ولم تغير لغتها أو تتنازل عنها في تعليمها لناشئتها.
* ثم هل يمكن أن يُحل فرد لغة محل لغته ويبقى بعد ذلك مشدودا إلى لغته الأولى شديد الثبات على جذوره وأرومته؟
والواقع أن ذلك مستبعد فعندما يعايش فرد لغة ما وتكون لغة تعليمه ووعاء معارفه وحاملة تفكير فإن هذه اللغة ستتحول إلى جزء من ذاته ويصبح انتماءه إليها غالباً على لغته وهويته الأم.
* ثم هل من الصحيح القول إنه لا يوجد خطر على العربية والمتكلمين بها من هذا التوجه؟
وهنا استغرب المحاضر ما يقال في هذا من أنه لا خطر على العربية بل إنه يستغرب توقع الخطر إذ الخطر موجود ومشاهد وواقع لا سيما واللغة تحاصرها عوامل صارفة من وسائل النشر والإعلام من قنوات الفضاء والتلفاز والمسلسلات والأفلام والعمالة الوافدة وغيرها.
ولقد كانت خاتمة التساؤلات التي أشار إليها المحاضر هي: هل نحن في حاجة إلى إعطاء مزيد من المواقع في نفوسنا لتأصيل وتأثير لغة أو لغات نستوردها من الخارج؟
وهنا طرح المحاضر للإجابة عن هذا هي بنص قوله ما يلي:
(أن تكلف الدولة من يقوم بعمل إحصاء مقارن بين عدد من يتكلم لغة أجنبية من المواطنين - والإنجليزية على وجه الخصوص -، وبين من يعرف قواعد لغته العربية معملاً إياها فيما يكتب ويقرأ ويقول وسيجد أن النتيجة محزنة، بل مأساة).
ولا شك أن هذه الرؤية ليست نشازاً وبدعاً من القول، فلقد كانت اللغة الأم والتعليم بها محل نظر المصلحين وعنايتهم من أهل السياسة والفكر والنظر في شتى العصور والأمم، لأنهم يعلمون أن أي قصور فيها ورغبة عنها هو سبب عجز كبير يصرف عن النبوغ والتقدم، ويصيب الأمة بعقم ليس بعده إلا العفاء والاندثار.
ولا يستغرب هنا قول القائد الفرنسي الكبير نابليون: (علموا الفرنسية ففي تعليمها خدمة للوطن).
ولعل أسماء وأقوال المصلحين وأهل الفكر يصعب حصرها إلا أنه يمكن أن يشار إلى عصبة وطائفة من هذه الأمة أتت في مطلع القرن العشرين في بعض بلادنا العربية في فترة كانت ترزحُ تحت نير الاستعمار، منهم الأديب الدكتور صلاح الدين القاسمي أخو العلامة محدِّث الشام الشيخ جمال الدين القاسمي.
فقد قام صلاح الدين مع إخوان له -رحمة الله عليهم جميعاً- بإنشاء (جمعية النهضة العربية) فعملوا فيها لرفعة العرب ومجدهم، ولنشر اللغة العربية بكل الوسائل، باذلين الجهد والمال في سبيل ذلك. قال الدكتور صلاح الدين القاسمي:
(فأول ما يراد من إصلاح التعليم هو أن يكون أولاً بالعربية إذا كانت المدارس مشيدة في بلاد يقطنها الناطقون بالضاد ممن انحدروا من أصلاب العرب العرباء؛ إذ إن غاية التعليم إرشاد الأمة إلى ما فيه صلاحها وإصلاحها ولا يتم ذلك إلا إذا توفرت على الأسباب التي من شأنها أن تأخذ بناصر اللغة العربية والعمل على إشاعتها فيما بينهم جهد الطاقة ليستتب لهم التفاهم بلغة سوف تعود إلى نضرتها الأولى إذا أصلحت طريقة التعليم، وكان التعليم بالعربية بالغاً منتهاه من العناية كتابة وقراءة وإلقاء.
وبعد هذا الحديث الموجز والذي دفعني إليه ما دفعني من أثر حديث أستاذنا الدكتور راشد المبارك عن المعاناة بتحقيق وبيان، وما أشاهده في ميدان التعليم، فإني أجدُ في نفسي تفاؤلاً وأملاً وأحسب أنه في نفس عميد الندوة المباركة وإخوانه من رواد ندوة الأحد العريقة - والتي أوشكت على تمام ثلاثة عقود من الزمن - في استلام معالي وزير التربية والتعليم صاحب السمو الأمير فيصل بن عبدالله آل سعود، زمام الهرم التعليمي والذي لا يستغرب على سموه النهوض بمسيرة التعليم، وإجلال شأن اللغة العربية، وغرسها في نفوس الناشئة، وأطر المعلم والمتعلم على الالتزام بها، والعمل على بث روح العلم والمعرفة وكشف المجهول.
rashed_alqhtany@hotmail.com