Al Jazirah NewsPaper Sunday  14/06/2009 G Issue 13408
الأحد 21 جمادىالآخرة 1430   العدد  13408
اما بعد
المواقف المبرمجة
د. عبدالله المعيلي

 

بدهي أن تتباهى الأمم وتفتخر إذا كانت تتسم بسمتين:

الأولى معنوية: تتجلى فيما تتحلى به الأمة من سمات وشمائل وأخلاق ومثل وقيم.

والثانية مادية: تتجلى فيما تتملكه تلك الأمة من عناصر القوة والسيطرة والتفوق، والتمكن التقني، وهيمنة الإرادة.

والمكانة الجلى، والتقدير الأسمى للأمم التي تتميز بالجمع بين السمتين كليهما، ويتجسد هذا بوضوح في الحضارة الإسلامية، وخاصة في بدايات عهدها، وتكاد تكون هي المثل الأوحد الذي تميز بالسمتين وتحلى بهما.

ومن الشواهد العظيمة المشرقة المضيئة التي تدلل على عظمة الحضارة الإسلامية ونبلها، وسمومفاهيمها الثقافية، وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لجيش المسلمين في معركة مؤتة، تلك الوصية التي أكدت على البعد الإنساني والقيمي في التعامل مع الأطفال والنساء وكبار السن، ودور العبادة، وتجنيبهم ويلات الحروب ومآسيها، هذه الوصية التي ظلت منارة هدى تهدي بسمومبادئها المسلمين وترشدهم إلى أنبل المواقف في التعامل مع الأعداء، وهي التي ميزتهم عن أدعياء التسامح، والمتاجرين بحقوق الإنسان.

وفي الوقت الحاضر تبدوالشواهد التي تدلل على التباهي بالسمة المادية أكثر من أن تحصى، فالأحداث المؤسفة المخجلة التي تحصل الآن في العراق وفلسطين خير شاهد على غلبة القوة الخشنة، وتخليها عن كل مفاهيم العدل والإنصاف واحترام الإنسان وحقوقه.

وصفحات التأريخ في القرن العشرين الماضي مليئة بصور بشعة نفذتها آلة الحرب الغربية المتفوقة في بعدها التقني المادي، صور من التعدي على كرامات البشر، يندى لها الجبين، وتقشعر من هولها الأبدان، صور مؤلمة مازالت تتجدد في ذاكرة الأحرار والمظلومين.

والغريب أن هذه الصور الفاضحة من التعدي على أبسط حقوق الإنسان لم تعد تتذكرها عقول الأتباع المبهورين بحضارة الغرب وقوته المادية الغاشمة الخشنة، فذاكرة هؤلاء الأتباع أصيبت بخلل واضطراب، فلم يعودوا يتذكرون الأحداث المؤلمة، في فيتنام واليابان، وأفغانستان والعراق وفلسطين، والبوسنة والهرسك، وكل بقعة دنستها أقدام الظالمين الباغية، وقبل هؤلاء مأساة الهنود الحمر في أمريكا، حيث قتلوا وهجروا وحرموا من أبسط حقوقهم الإنسانية، وهم أهل الأرض وأصحابها الأصليين، لقد أصابت أضواء الغرب الباهرة أعين الأتباع بحول وعمى، فلم تعد أعينهم تبصر أوترى أنوار الحقائق، ولم تعد عقولهم تميز بين الحق والباطل.

فأين هؤلاء مماحصل في الحربين العالميتين الأولى والثانية ؟، وفي هيروشيما ونجازاكي، وفي فيتنام، وفي البوسنة والهرسك، وفي أفغانستان الأولى على أيدي السوفيت، والثانية على أيدي أمريكا ومن أتبعها بظلم في العراق (أبوغريب)، وفي فلسطين كلها وفي (غزة) تحديدا، في هذه البلدان وغيرها صفحات سود مليئة بصور بشعة من القتل والدمار، وانتهاك الحقوق والقيم والأخلاق والكرامات.

إن بصائر المبهورين المستسلمين لقوى البغي في غيبة عن هذا، قد تكون نسيته لتوالي الأيام على تلك الأحداث، لكن يبدوأنها عمدت إلى تناسيه، لأن جل هذه الأحداث وما حملته من صور الإهانة والمهانة والقتل والتشريد مازالت حية يقظة في الذاكرة، ويتعذر على كل منصف حر أن ينساها.

إن الجرائم التي مازالت تترى في فلسطين والعراق التي انتفض لها العالم كله - لشدة فظاعتها وشراستها - لم تحرك وجدانات اصحاب المواقف المبرمجة، حيث ظلوا ساكنين ساكتين بل ليتهم بقوا كذلك وأراحوا من هم ظلمهم وتعسفهم في تفسير المواقف ولي الحقائق.

إن الجرائم التي ترتكب في العراق وفلسطين أيقظت الضمائر، وحركت الوجدانات الحية، وعرت أقلام التجني والتعسف، وذوي الأهواء والمواقف المبرمجة ضد أي حراك له سمة خارج إطار الاستسلام والتبعية العمياء للغرب.

إن تجاهل هذه المعطيات والحقائق وتناسيها، وفي ذات الوقت وضع النفس في مصاف المعتدي، وتسخير الأقلام في التأويل والتشكيك، ولوم الضحية وتحميلها المسؤولية، والمطالبة بالاستسلام يجعل الحليم حيرانا، فالأحداث المؤسفة المخجلة التي تحصل الآن في العراق وفلسطين تدلل على هذا وتؤكده ويستنتج منها أننا في الزمن الرديء، الزمن الذي انقلبت فيه المفاهيم، زمن نرى فيه أناسا يجلدون المدافعين عن الكرامة، المطالبين بأبسط الحقوق، وفي الوقت نفسه يغضون الطرف عن مظاهر الظلم والعدوان والتدمير والقتل الذي يقع بأبشع الصور وأفظعها!



Ab_moa@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد