Al Jazirah NewsPaper Sunday  14/06/2009 G Issue 13408
الأحد 21 جمادىالآخرة 1430   العدد  13408
هل نتمكن من البقاء في الحقبة الأخيرة؟
بول جيه. كروتزِن

 

كانت التأثيرات المتخلفة عن أنشطة بشرية على البيئة العالمية في تصاعد مستمر طيلة القرون الثلاثة الماضية. والأهم من ذلك أن الانبعاثات التي نطلقها من ثاني أكسيد الكربون قد تتسبب في انحراف أنماط المناخ العالمي إلى حد كبير عن مسارها الطبيعي لعدة آلاف من السنين.

ويبدو من المناسب الآن أن نطلق مصطلح (الحقبة الأخيرة) (Anthropocene) على العصر الجيولوجي الحالي المكمل لعصر الهولوسين -الفترة الدافئة التي استمرت طيلة العشر إلى الاثني عشر ألف سنة الماضية- والتي هيمن عليها الإنسان على أكثر من نحو. ونستطيع أن نقول إن الحقبة الحديثة ربما بدأت في الجزء الأخير من القرن الثامن عشر، حيث أظهر تحليل الهواء المحصور داخل الجليد القطبي بداية ظهور تركيزات عالمية متنامية من غازي ثاني أكسيد الكربون والميثان. ويتصادف أن يوافق هذا التاريخ أيضاً تصميم جيمس وات للمحرك البخاري في عام 1784م.

لقد بدأ البشر في إدراك تأثيرهم على البيئة في تاريخ قد يرجع إلى عام 1873م، حين أشار الجيولوجي الإيطالي أنطونيو ستوباني إلى عصر الأنثروبوزويك(anthropozoic) الذي عَرَّفَه بأنه: (قوة أرضية جديدة يمكن مقارنتها من حيث قوتها وشمولها بالقوى الأرضية العظمى).

وفي عام 1926 أَقَّر ف.آي فيرنادسكي على نحو مشابه بالتأثير المتزايد الذي خلفه البشر على الاتجاه الذي يتعين على عملية التطور أن تتخذه، أو بالتحديد نحو زيادة الوعي والفكر، ونحو أشكال قادرة على ترك أثرٍ متزايد القوة على البيئة المحيطة بها). ولقد استخدم فيرنادسكي وتايلهارد دي شاردين مصطلح (نيوسفير) (noesphere) -عالَم الفكر- لتسجيل الدور المتنامي لقوة العقل البشري في صياغة مستقبله وتشكيل بيئته.

ولقد استمر التوسع السريع للبشر من حيث تعدادهم ونصيب الفرد منهم في موارد الأرض بخطى سريعة. فأثناء القرون الثلاثة الماضية، تضاعف عدد سكان الأرض من البشر إلى عشرة أمثاله، فتجاوز الستة مليارات (المليار ألف مليون)، ومن المتوقع أن يصل تعدادهم إلى عشرة مليارات في غضون هذا القرن. ونتيجة لهذا فإن البشر يستغلون الآن حوالي 30% إلى 50% من مساحة اليابسة على الكرة الأرضية.

وفي الوقت نفسه ارتفع عدد رؤوس الماشية المنتجة لغاز الميثان إلى 1,4 مليار، فأسهم ذلك في ارتفاع معدل تدمير الغابات الاستوائية المطيرة، الأمر الذي أدى إلى إطلاق ثاني أكسيد الكربون وساهم في انقراض الأنواع على نحو أسرع. كما تسبب تحويل الأراضي إلى مناطق مخصصة للرعي (أو التشييد والبناء)، إلى جانب فلاحة المحاصيل، في تآكل التربة بمعدل بلغ خمسة عشر ضعف المعدل الطبيعي. وبهذا المعدل الحالي فإن تآكل التربة في المناطق التي يعيش عليها البشر من الممكن أن يملأ جراند كانيون في غضون خمسين عاماً.

وعلى نحو مماثل، أصبح بناء السدود وتحويل مجاري الأنهار من الأمور الشائعة، مع ارتفاع معدلات استهلاك البشر للمياه إلى تسعة أمثاله على مدى القرن الماضي، إلى الحد الذي جعل البشر يستخدمون أكثر من نصف إجمالي المياه العذبة التي يمكنهم الحصول عليها حالياً - والتي يذهب ثلثاها تقريباً لأغراض الزراعة. وتتسبب مصائد الأسماك في إزالة ما يزيد على 25% من الإنتاج الأولي في مناطق التيارات المائية الصاعدة في المحيطات، وحوالي 35% في الجرف القاري المعتدل.

فضلاً عن ذلك فقد تضاعف استخدام الطاقة ستة عشر مِثلاً أثناء القرن العشرين، مما تسبب في إطلاق مائة وستين مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت إلى الغلاف الجوي للكرة الأرضية سنوياً - وهو ما يزيد على ضعف إجمالي الانبعاثات الطبيعية. وبالمثل، يستخدم البشر الآن من المخصبات النيتروجينية (الأزوتية) في الزراعة ما يزيد على الموجود منه بصورة طبيعية في كافة الأنظمة الأيكولوجية على اليابسة، فضلاً عن ذلك فإن مستويات أكسيد النيتريك الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري والمواد العضوية تتجاوز أيضاً مستويات الانبعاث الطبيعية.

وفي الوقت نفسه، كان استهلاك البشر للوقود الأحفوري، إلى جانب أنشطتنا الزراعية، سبباً في زيادات كبيرة في تركيزات الغازات المسببة لظاهرة الانحباس الحراري ثاني أكسيد الكربون بنسبة 30%، والميثان بنسبة تتجاوز 100%. بل إن مستوى هذه التركيزات الآن يعتبر أعلى من أي وقت مضى طيلة الأربعمائة ألف عام الماضية، هذا فضلاً عن توقع المزيد من النمو للتركيزات، وذلك لأن هذه التأثيرات كانت ناتجة حتى الآن عن 25% فقط من إجمالي تعداد سكان العالم.

إن العواقب عديدة وعميقة: الترسبات الحمضية، و(السخام) الكيميائي الضوئي، والانحباس الحراري العالمي، وغير ذلك من العواقب. ومن ثَمَّ فطبقاً لآخر تقديرات الهيئة الحكومية الدولية المختصة بدراسة تغير المناخ فإن حرارة الأرض سوف ترتفع بمقدار 1.4 إلى 5.8 درجة مئوية أثناء هذا القرن. إننا نطلق العديد من المواد السامة في البيئة، ورغم أن بعض المواد التي نطلقها غير سامة إلا أنها قادرة على إيقاع الضرر الشديد بالبيئة -على سبيل المثال-، مركبات الكلوروفلوروكبرون التي تسببت في إحداث ثقب الأوزون فوق القطب الجنوبي (والتي تم تنظيم استخدامها حالياً).

وربما كانت الأمور لتصبح أشد سوءاً: كانت خصائص الهالوجين المدمرة لطبقة الأوزون خاضعة للدراسة منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين. ولو تبين أن الكلور يتفاعل كيميائياً مثل البروم، لكان ثقب الأوزون قد تحول إلى ظاهرة عالمية ممتدة على مدار العام، وليس مجرد حدث محصور في القطب الجنوبي في فصل الربيع. والحقيقة أن العالم تمكن من تجنب هذا الوضع المأساوي بالصدفة البحتة وليس بحكمة سكانه.

ما لم تقع كارثة عالمية -اصطدام نيزكي بالأرض، أو حرب عالمية، أو وباء عالمي- فسوف يظل البشر يشكلون قوة رئيسية مؤثرة على البيئة لعدة آلاف من السنين. وعلى هذا فإن العلماء والمهندسين يتحملون مهمة شاقة خلال الحقبة الأخيرة: وهي المهمة التي تتلخص في إرشادنا وتوجيهنا نحو الإدارة المستدامة بيئياً لمواردنا. ولسوف يتطلب هذا سلوكاً بشرياً لائقاً على كافة المستويات، وقد يشتمل الأمر على مشاريع واسعة النطاق ومقبولة دولياً في مجال الهندسة الأرضية (geo- engineering) للعمل على (ضبط) المناخ. إلا أننا في هذه المرحلة ما زلنا على مشارف منطقة لم تستكشف بعد.

بول جيه. كروتزِن حائز على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1995م.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009م.
www.project-syndicate.org
صورة المؤلف ملتقطة بواسطة: وونج بيرجمان
(خاص بـ(الجزيرة)



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد