Al Jazirah NewsPaper Sunday  14/06/2009 G Issue 13408
الأحد 21 جمادىالآخرة 1430   العدد  13408
لما هو آت
أيُّ التكريم..؟!!
خيرية إبراهيم السقاف

 

لم يتوقف رنين هاتفه طيلة ذلك اليوم، إذ أفاق على صوت سكرتير رئيسه السابق يدعوه لحفل مختصر على أفراد دائرته في المؤسسة الكبرى التي خدمها أكثر من أربعين عاما، وهدف الحفل هو تكريمه مع ثلة ممن غادروا مثله مقاعد العمل.. قال وهو يحدث السكرتير: لكنني يا بني لم أغادر مقعدا، فطيلة أربعين عاما لم أمنح ساقيَّ راحة وهما تحملانني من مكان لآخر، وحين تحطان بجسدي على مقعد فهو خلف طاولة مكتظة بالورق، أو مقود في شوارع مزدحمة يتصبب فيها عرقي حتى أحصل على موافقة ما أو توقيع أساس في بنود من شأن تصاريحها علو بنيان دائرتكم, أنا يا بني أكلتني الأربعين عاما لحما وعظما، زرعته مسامة مسامة، وعصبا عصبا، في جلد دائرتكم كي يكبر لحمها، ويقوى عظمها، ويستقيم ظهرها،. ومنذ غادرتكم لم تلمع شاشة هاتفي باسم أحدكم لا رئيسك ولا غيره، عام ونصف العام، رممت وهن عظامي، ومسحت على شحوب جبهتي، واستعدت سلامة ذائقتي، وهدأت من ورم أعصابي، فعدت أتحرك بسلامة، وأبتسم بطلاقة، وأشم الزهور وأستنشق العبير، خرجت للحياة بعد أن دفنت نفسي أكثر من أربعين عاما في عملي، تشهد لي جدار المؤسسة، وتبصم صوتي، وصدى دعستي, وتحتفظ في ثقوبها الصغيرة بأنفاسي وغبار خطوتي، يكفيني تكريما هذه الأعداد من البشر الذين دربتهم، وتلك المشاريع الصغيرة التي حدبت علي طفولتها فكبرت، أنا خلف شعاركم، لا أحتاج لتكريم آخر يفوق ذاكرة المكان, وإن طمسه صمت الذاتيين، وضيَّعته غفلة المتسلقين، قل لرئيسك شكرا، مع الاعتذار..

*** حقيقة أصبحت مناسبات التكريم شكلا من المظاهر الاعتيادية، وأخذت تخرج عن مفهوم العرفان، وهو في الإجراء الحقيقي حفظ جهود المرء في موقع عمله، حفظا يليق بتراكمية العطاء، وأولوية البذل، وقيمة الفعل، والاستفادة من خبرات الأقدمين، وعدم طمس أوراقهم، فالأمم الناجحة لا تنسى الأرواح الباذلة، والنفوس المؤثرة، والجهود الناصعة، والعرق المراق، وتطويه طيا، بعد حفل عابر تتقارع فيه أطراف الملاعق وسنان السكاكين، ويمضي الجميع وفتات الكعك يتخاطفه المنظفون, وتسدل بعد ذلك على المغادر أسترة النسيان.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد