Al Jazirah NewsPaper Wednesday  17/06/2009 G Issue 13411
الاربعاء 24 جمادىالآخرة 1430   العدد  13411
بلوقز لأمريكا
د. فوزية عبدالله أبوخالد

 

-1-

مطر هتان يقطر بحزن وحياء في وداع الشتاء..

أما الرياح فقد جنّ جنونها من اقتراب الفراق..

فراحت تطير الشماسي، تهدد شالات الصوف، تغافل التنانير وتعاقب الأشجار التي خدعت البرد واستعجلت أجله بأطيافها الخضراء..

-2-

شاب من العراق جاء للالتحاق بكلية الهندسة بينما يعمل على (بسكليت) بثلاث عجلات ومقعدين.. فيدور بالسياح عبر جادة الشارع الخامس مروراً بما يُسمى السنترال بارك.. مشيراً بيده المتبقية من حرب أمريكا الأخيرة على بلاده إلى مواقع تصوير فيلم (وحيداً في البيت) (هووم الوون).. شعرت بألم في ذراعي الأيسر يلوي عنقي جهة المشراق، وأنا أرى الوحيد في الغربة مكتظاً بالأحلام إلى ذلك الحد الانتحاري، وهو بين الجولة والجولة ينحني على دفتر قال إنه يكتب فيه شعراً لأطفال العراق.

****

-3-

سيدة أربعينية من أوكرانيا منقوش على رمانة كتفها العارية في هذا المطر والزمهرير سرب طيور راحلة باتجاه داخل شق القميص، تبيع تلك السيدة ذات الغمازات الشابة والشعَر اللوزي المتموّج إلى آخر ضفاف نهر هدسون، شالات تشبه الكوفية الفلسطينية غير أنها بألوان متعددة زاهية، بجانبها ملصقات لتشي جيفارا ولفرقة البيتلز ولجون ترافولتا وكيلي برستون عن فيلم (قصة حب)، وأخرى عن فيلم (حمى ليلة السبت) بجانب عارضة البيع الكرتونية مسجلة صغيرة ينبعث عنها نغم ملتاع من القرن الماضي تترنم فيه ماري هوبكنز.. تلك الأيام يا صديقي التي ظننا أنها ستبقى إلى الأبد ويوم حين كنا محملين بالأحلام (والمشاحنات والضحكات) Those were days My friend, we thought would never end

كان شباب ذلك القرن البعيد وحدهم يقفون عند شواطىء تلك السيدة، وعبثاً يحاولون استعادة صور ماضيهم المائج أمامهم من تلك الرموز التمردية الصغيرة فيما يعبر شباب اليوم بجانبها، وليس لدى أي منهم الفضول أو الاهتمام ليتوقف بما لا يبدو لهم أكثر من أطلال لحنين ليس حنينهم.

****

-4-

عند متجر ديزني في عطفة المساء أميرات خرجن من فضاء الحكايات لشعوب عدة ودخلن بحرير الأقدام وأحزان الأمجاد الزائلة سجون واجهات المتاجر.. رعايا من الدرجة الثالثة في بلاط الرأسمالية.. يبكي حذاء ساندريلا من قسوة الوقوف الطويل على الرصيف العاري، بينما بيضاء الثلج تجفف جراح مرآتها بمناشف شمس الغروب، أما الأميرة بوكاهنتوس فمثل ياسمين لا تعرف ملامحها المبهرة بتوابل الشرق من وجه تلك الغانية الملطخ بالأصباغ والدموع.

****

-5-

يمر المارة بشوارع نيويورك.. أنهار بشرية متدافعة من السود والبيض والهنود الحمر وبورتريكو وكولومبيا وجحافل القادمين من الصين والفارين فُرادى أو في مجموعات متشرذمة مما كان الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية.. أو ما تبقى من هضبة التبت والأناضول ومملكة سبأ وإمبراطورية الحبشة يتحزمون على اختلافات ألسنتهم وخلفياتهم الثقافية بالحلم الأمريكي على بطون ينخرها الجوع أو ينفخها الشبع.. كل يُخبئ عن الآخر ما يفضحه.. في الشارع المقابل في متحف الفن المعاصر الفنان الألماني الأمريكي (1953 - 1997م) مارتن كيبنبيرجير في رائعته الفنية المسماة: (النهاية السعيدة لأمريكا) التي أسس منحوتتها على مشهد متخيّل من الرواية الأخيرة لفرانز كافكا (1927م).. حيث في الكتاب يأتي الشاب كارل روزمان مهاجراً لأرض الحلم متأبِّطاً أمله الساذج بأن يصبح ذا شأن في العالم الرأسمالي، فيدلف إلى مركز توظيفي يُدعى مسرح أكلاهوما.. هذا المسرح هو الذي يحوّله كيبنبيدجر إلى منحوتة ناطقة بسبع لغات وأربع شفاه عبر سبع قارات.

أرضية المنحوتة عبارة عن ملعب كبير مفروش باللون العشبي حيث يضع عليه مختلف أنواع الأثاث الرث والباذخ الذي يكشف عن أنياب الهرم الوظيفي والطبقي والعرقي بأمريكا وأظلافه الرأسمالية النظيفة إلا من دم الحالمين، وهي تعتصر ماء وجوههم وعرق كفاحهم وتحوِّلهم إلى أحصنة لاهثة في حلبة سباق لمنافسات شرسة لا متكافئة.. فهناك طاولات مقلوبة وأخرى مصممة على شكل حصون إلكترونية منيعة حيث يقع أمامها كراسي خفيضة متهالكة بعضها بثلاث أرجل، وأخرى عالية لا يمكن الوصول إليها إلا عبر سلالم طويلة.. كل ذلك لتُذكِّر من يصل إليها من طالبي العمل بتواضعهم واستصغارهم أمام مهابة الطرف المقابل وتركيبته المعقدة.

****

-6-

رجال من مختلف الأعمار يسكنون اللا مكان في القارة الشمالية الفارهة.. بعضهم يستعطي بألحان الكمان وبعضهم يطعم أصابعه لأضلع الأكرديون لتسيل الموسيقى مع الأمطار إلى فوهات مجارٍ تخنق الأصوات أو تضيع تحت صرير عجلات السيارات الراكضة حولهم.. رجال من مختلف الأطوال والأحجام والأمزجة يلتحفون الغيوم والبروق والعواصف، يفترشون الجليد على جسور انقطعت بهم عن المسار العادي لحياة كريمة نظيفة.. يمر اليوم تلو الآخر، وهم باقون هناك في اللا مكان كأنه يراد لبؤسهم وتشردهم وإدمان بعضهم أن يبقى مشهداً سياحياً يُعبِّر عن وجه -ما- من هوية هذا المكان.

****

الشمال الغربي 4-2009

-7-

كأن المكان قد قُدَّ ليناسب تحدياتهم.. مبصرون يقطعون الشوارع وحدهم ليس إلا عصا بيضاء طويلة تتقدم موكبهم فتقف لهم السيارات وتفسح لهم الطرقات وترفع الأكف بالتحية لهم.

كأن الطرقات، المسارح، مدرجات المحاضرات، الحرم الجامعي، الحدائق، المطاعم، المنتزهات، المتاحف، مواقع الاحتفالات لا تتهيأ إلا لاستقبالهم.. مواطنون ومقيمون.. نساء ورجال.. أساتذة جامعيون.. علماء وأدباء.. عمال تُوضع لهم كل التسهيلات كحق لهم.. ولذا فقلَّما لا يكون منهم عباقرة في كل المجالات التي ليس فيها إلا ويفتح لهم الأبواب بامتنان وإعجاب بقدرتهم على تحدي الإعاقات.

****

-8-

الغالبية هنا يبتسمون ويسلمون على من يعرفون وعلى من لايعرفون.. كأنهم أو لعلهم استرقوا السمع للهدي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإفشاء السلام وبفضل الابتسام.

****

-9-

الفصل الجامعي الصيفي وما يخلب اللب من المقررات المبتكرة.. علم اجتماع فنون الضحك والحس الساخر عند الشعوب.. تحليل لرواية الحرب والسلام، الاتصال وصورة المرأة في الإعلام.. الدموع في الإنتاج الأدبي للشباب من الجنسين، إثنوجرافي عن أحاديث تجارب الولادة، سيسيولوجيا الجنون وأحلام الصحو.. علم اجتماع المستقبل.

****

-10-

ليس التعود على الصورة ما يجعلني أختم بالإيجابيات.. إلا أنه تعدد الصورة الذي على العين أن تتعلم رؤيته.



Fowziyah@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد