Al Jazirah NewsPaper Wednesday  24/06/2009 G Issue 13418
الاربعاء 01 رجب 1430   العدد  13418

أبا عبد الرحمن.. إذا كان هذا فعلكم في محبكم!! (1-2)
بقلم: د. محمد عبده يماني

 

فرحت بحديث أستاذنا الشيخ أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وأنا أشكر له هذه المداخلة العلمية ذات المستوى الرفيع ولقد تعلمنا منها جوانب من أدب الحوار وجدية المناقشة، وأحب في بداية حديثي - وقد جعلتم عنوان مقالتكم (إنما هو حب لك لا تحيز ضدك) - أن أقول لأستاذنا: إذا كان هذا فعلكم في محبكم لعمري كيف تصنع بالأعاديا؟ واني أيضا أعتب عليك يا أبا عبد الرحمن عتاباً شديداً في إنك بدأت تغمز وتلمز إلى سقوط أسنانك وأنك فيما معناه قد اشتعل الرأس شيباً.. وهذا لعمري لا يبرؤك بأي حال من الأحوال من تاريخ طويل في حب مهذب وعشق للجمال والله سبحانه جميل يحب الجمال.. والشيب لا ينفي ما في القلب ويكفي صاحبك الشاعر ما قاله:

أحببتها شمطاء شاب وليدها

وللناس فيما يعشقون مذاهب

وعندما أشاحت ولوحت له بالشيب وعيرته كان دفاعه رائعاً وجميلاً:

تعيرني بالشيب وهو وقار

ليتها عيرت بما هو عار

ثم أكد:

تفاريق شيب في الشباب تناثرت

وما حسن ليل ليس فيه نجوم

ومن هنا فاني أقول لك يا أبا عبد الرحمن تساقط الأسنان ليس بعار والحب البريء لا يحتاج إلى مخالب ولا إلى أسنان وإنما قوامه الحنان والقلب وهذا هو محط الشعور عند المحب والامتنان والتعلق حتى الجنان فمنهم من أحب ومنهم من تولع ومنهم من أوصله كصاحب ليلى إلى الجنان فغدا كمجنون ليلى وأنت أعلم بالشأن.

ورحم الله أستاذنا الشيخ الزيدان عندما شهد بأنك متجدد الشباب فقال: (عرفت أبا عبد الرحمن شاباً وما أزال إلى الآن أراه بذلك الشباب، لأني حين أراه أتصوره انه قد شاخ بينما هو لما يصل بعد إلى أن كان كهلاً).

فمعذرة يا أبا عبد الرحمن لأني غير مقتنع بأنك هجرت كل ذلك التاريخ العزيز والحب للفن الرفيع، وليتك لم تحطم الأشرطة وآلاتها وأهديتها لي فأنا أولى بها لأني حتى الآن احتفظ بكل ذلك بل وأُنميه من الشعر العذب واللحن الجميل، خصوصاً يوم كنا نسمعه والسيدة أم كلثوم تصدح به، ثم أم الوليد من شعر الأفذاذ الذين كانوا يكتبون لها شعراً راقياً وكلاماً جميلاً أمثال أحمد رامي، أحمد فتحي، ونزار قباني، كما غنت من ألحان سيد مكاوي، وحلمي بكر، وكمال الطويل، ولحن لها صديق العمر الذي التصق بها رياض السنباطي حتى جاء بليغ حمدي فبعثر الأدوات القديمة وحل بلحن جديد وفن رفيع أسرنا به، فكيف تتنكر يا أبا عبد الرحمن لكل تلك الأيام الخوالي؟ وما كان فيها والحمد لله إلا النقاء والطهر والحب البريء لكل ما هو جميل، وليتك تذكر يوم كنا نستمع إلى السيدة أم كلثوم رحمها الله وهي تصدح بقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي واختار منها هذه الأبيات:

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفم الزمان تبسم وثناءُ

الروح والملأ الملائك حوله

للدين والدنياء به بشراءُ

والعرش يزهو والحظيرة تزدهي

والمنتهى والسدرة العصماءُ

اسم الجلالة في البديع حروفه

ألف هنالك واسم طه الباءُ

يا خير من جاء الوجود تحية

من مرسلين إلى الهدى بك جاؤوا

به بشر الله السماء فزينت

وتضوعت مسكا به الغبراءُ

وعليه من نور النبوة رونق

ومن الخليل وهديه سيماءُ

يوم يتيه على الزمان صباحه

ومساؤه بمحمد وضاءُ

يا من له الأخلاق ما تهوى العلا

منها وما يتعشق الكبراءُ

زانتك في الخلق العظيم شمائل

يغرى بهن ويولع الكرماءُ

أما الجمال فأنت شمس سمائه

وملاحه الصديق منك أياءُ

فإذا سخوت بلغت بالجود المدى

وفعلت ما لا تفعل الأنواءُ

وإذا خطبت فللمنابر هزة

تعرو الندى وللقلوب بكاءُ

وفي كل نفس من سطاك مهابة

ولكل نفس في نداء رجاءُ

كذلك يوم كنا نستمع إلى فيروز وهي تصدح بقصيدة غنيت مكة والتي قال فيها سعيد عقل:

غنّيت مكّة أهلها الصيدا

والعيد يملأ أضلعي عيدا

فرحوا فلألأ تحت كل سما

بيت على بيت الهدى زيدا

وعلى اسم رب العالمين

علا بنيانه كالشهب ممدودا

يا قارئ القرآن صلّ لهم

أهلي هناك وطيب البيدا

من راكع ويداه أنستاه

أن ليس يبقى الباب موصودا

أنا أينما صلّى الآنام رأت

عيني السماء تفتحت جودا

لو رملة هتفت بمبدعها شجوا

لكنت لشجوها عودا

ضجّ الحجيج هناك فاشتبكي

بفمي هنا يا ورق تغريدا

وأعز ربي الناس كلهم

بيضا فلا فرّقت أو سودا

تلك كانت الوقفة الأولى أما الوقفة الثانية: فهي حديثك عن موضوع المولد النبوي الشريف وما صاحبه من لغط وحديث حول حله أو تحريمه فدعني أقول لك يا أبا عبد الرحمن إن هذه القضية شابها الكثير من الخلط، أما حقيقة الأمر فهي أن المولد النبوي الشريف والاحتفاء به أمر مطلوب وتعودنا عليه حباً في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمولد النبوي جزء من هذه السيرة وهو صلى الله عليه وسلم قد احتفى بهذا اليوم وجاء الحديث النبوي صريحاً واضحاً عندما سئل عليه الصلاة والسلام عن صيام يوم الاثنين فقال: (هذا يوم وُلدت فيه) هذا من ناحية ومن الناحية الأخرى الحديث الآخر في صحيح مسلم (عن أبي سعيد الخدري قال خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: (ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا، قال آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة) (1).

ومن هنا يمكننا تقسيم موضوع الاحتفاء بالمولد النبوي إذا قسمناه بموضوعية وبعلم وفي غير تشنج ولا نكران على أربعة أوجه:

الوجه الأول: وهو أن يقوم كل مسلم بالاحتفاء بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعل عليه الصلاة والسلام، وذلك بصيام يوم الاثنين وفي هذا إحياء لتلك السنّة المباركة واحتفاء بالسيرة العطرة لمولده صلى الله عليه وسلم وشكر لله على ما أكرمنا بهذا النبي الكريم والرسول العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام، فيكون بذلك احتفاء يتكرر كل يوم اثنين بمولده المبارك الشريف، فإن اقتصر على صيام يوم الثاني عشر من ربيع الأول فيكون قد احتفى بمولده الشريف مرة واحدة، وكلا الأمرين مرغوب ومحبوب.

الوجه الثاني: أن يحتفي المسلمون بهذا اليوم عن طريق إقامة طاعات لا تخالف شرعاً وأن تنسجم مع ما يجب علينا تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كونه قدوة وأسوة لهذه الأمة فنحتفي بالمولد النبوي الشريف طوال أيام السنة وفي أي وقت تتاح لنا الفرصة فنجلس لقراءة القرآن الكريم وندرس السيرة النبوية، ونستضيف من العلماء من هو أهل لذلك للحديث عن جوانب من تلك السيرة، ثم تلقى قصائد في مديح النبي صلى الله عليه وسلم كقصائد حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وغيرهما الذين كانوا ينشدون أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما شابهها من قصائد الشعراء، فمدحه والثناء عليه والصلاة والسلام عليه والحديث عن أخلاقه وسيرته، كل ذلك مطلوب ومرغوب ومحبوب، كل ذلك في إطار شرعي لا نخالف فيه نصاً، ولا نفعل إلا خيراً، ثم نختم بالدعاء والصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوصي بعضنا بعضاً بكثرة الصلاة والسلام عليه سراً وجهراً وقياماً وقعوداً.

أما الوجه الثالث: فهو الاحتفالات التي تجري في هذه المناسبة التي تتم ويخالطها مخالفات لا تتفق مع شرع الله ولا مع سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم فهي مرفوضة، ولا يمكن أن نحتفي برسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر يجلب غضب الله وإنما نعدها عادات وتقاليد وقع فيها بعض الناس ولم يجدوا من يرشدهم إلى الطريق الصحيح في الاحتفاء بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخلطون بين السيرة النبوية وبعض الممارسات الخاطئة، وقد شاهدنا مثل هذا في بعض البلاد فاعترضنا عليها ولم نقبلها وقلنا إن الطريق القويم هو العودة إلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم والاهتمام بهذا اليوم العظيم وهو يوم مولده صلى الله عليه وسلم وعدم المرور عليه مروراً عابراً واغتنام هذه الفرص لتعليم الأولاد وربطهم بهذه السيرة بعد أن تعددت أمامهم المغريات وفرضت نفسها المرسلات والتلفزيونات حتى انصرف الأطفال عن تلك القيم العظمية. ورحم الله ابن تيميه وهو يقول: إذا رأيت الناس عازمين على أمر وهم فاعلوه لا محالة فلأن تلتمس لهم قولاً ضعيفاً خير من أن يفعلوه فيكونوا كمن أصروا على ما فعلوا).

ومن هنا يمكن القول إن الاحتفاء بمولده صلى الله عليه وسلم بما يليق به وبما يتفق مع الشرع الحنيف من صوم أو اجتماع لتذكر سيرته أو نشيد بفضائله وجوانب من سيرته هو أمر لا يتعارض مع نصوص الشريعة، خاصة عندما يحضر هذه المجالس علماء يرشدون الناس ويأخذون بأيديهم إلى فقه صحيح وتيسير لجوانب من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم..

الوجه الرابع: هو هذا الأمر المؤسف الذي يتم فيه الهجوم على المولد وانه لا أساس له وانه لا ثواب عليه بصورة غير ملائمة ولا تتفق مع مكانة هذه السيرة ومن رجال يثيرون المشاكل والفتن ويصرون على أننا قوم ضد سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأننا والعياذ بالله نكره رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أننا في بلادنا خاصة والحمد لله نقيم هذه الموالد بصور شرعية حاشا أن يكون فيها اختلاط بين الرجال والنساء أو استخدام لآلات اللهو أو مخالفة لكتاب الله أو سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم..

ومن هنا وجب أن يكون هناك توجه نحو حوار واسع لهذه القضية لتكون في إطار الشرع الحنيف، وبهدف إحياء ذكرى السيرة النبوية الشريفة لأنه القدوة ولأنه الأسوة ولأنّ الله عز وجل جعل محبته سبحانه تبدأ من اتباع هذا النبي الكريم وحبه، وهذا طريق من طرق المعرفة عندما نقرأ السيرة النبوية في مثل هذه المجالس في أدب يتفق مع صاحب هذه السيرة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.

وقد فرحت وأنا استمع إلى أخي معالي الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان وهو يقول: أن هذه المجالس التي نسميها بالموالد والتي لا تتعارض مع نص من الكتاب أو السنّة وإنما تثرى حياة الأمة بتدارس السيرة النبوية تستحق أن نسميها مجالس السيرة النبوية، فهذا أقرب إلى الفهم وإلى واقع هذه المجالس .. هذا يا أبا عبد الرحمن هو رأيي وتستطيع أنت أن تحمل لواء هذا الأمر لحوار هادف إلى تصحيح المسيرة بدلاً من أن يبدّع بعضنا بعضا في عصر ثبت فيه أن الحوار هو الطريق الصحيح للوصول إلى الأهداف التي نرجوها، فكيف بهدف تعميق المحبة لهذا النبي الكريم في نفوسنا ونفوس أولادنا عن سيرته صلى الله عليه وسلم..

أما الوقفة الثالثة فهي بخصوص حديثك أيها الشيخ الجليل عن موضوع الصوفية ووصفك لها بأنها داء، واستغربت ذلك منك، فما كانت الصوفية في يوم من الأيام داءً، بل كانت دواءً للقلوب والعقول، وإنارةً للصدور، لأن مذهبهم الأصلي القديم كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى إن الذين يتصوفون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: صوفية ومتصوفة وأدعياء تصوف، فالصوفية: هم المتمسكون بالكتاب والسنّة لذلك يثنى عليهم ثناءً عاطراً. وأدعياء التصوف: وهؤلاء قوم دخلاء على الصوفية سواء كان لرزق مادي أو لتشويه الصوفية وهم قوم من الزنادقة دخلوا على المتصوفين بشعوذتهم والمتصوفة: وهم قوم مقلّدون للصوفية وموقعهم في الوسط ساعة مع هؤلاء وساعة أخرى مع هؤلاء.

وفي عصر الإمام أحمد بن حنبل دخلت عليهم بعض الأمور التي أدت لأن يكون له رأي في الصوفية، وعندما أراد أن يتأكد بنفسه من ذلك جلس في مكان لا يراه فيه الشيخ الحارث المحاسبي واستمع إلى طريقة عبادته ومناجاته لربه فبكى الإمام احمد بن حنبل تأثراً.

ومن هنا أقول لأستاذنا الشيخ الحبيب ومعلمنا أبي عبد الرحمن بن عقيل إنّ ما يمارس اليوم من ألوان من العبث والشركيات والمخالفات التي تنسب إلى الصوفية في بعض البلاد هي أمور لا علاقة لها بحقيقة الصوفية، ولا بأولئك الرجال الأفذاذ الذين تبتّلوا إلى الله وحمل مجموعة منهم مسؤولية الدفاع عن دين الله ونشره وتعليمه وتدوينه، بل سلّ بعضهم سيوفه دفاعاً عن العقيدة السمحاء، فإذا خالطهم اليوم من ينسبون إليهم زوراً وبهتاناً فهذا يدعونا إلى التمييز بين من سمّاهم ابن تيمية الصوفية وأدعياء الصوفية، ونفرق بينهم، وأنت تعلم يا أبا عبد الرحمن كيف أن الإعلام اليوم في بعض جوانبه قد أفسد كثيراً من المفاهيم بما ينقله بصورة عفوية عن بعض المذاهب والأفكار، ولكن لا يعول إلا على العلماء والفقهاء أمثالكم ليميزوا بين الغث والسمين، وكم تعبنا وأنت تعلم من أولئك القوم الذين يتهموننا في المملكة بأننا وهابيون ويعرّفون الوهابية بأنها مذهب يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته وأنه يحث على هدم آثار النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تطاول بعضهم وكتب يطلب هدم القبة الخضراء وإخراج القبر الشريف عن المسجد، وأثار علينا الكثير من علماء الأمة وفقهائها بدعوى أن هذا القبر أصبح وثناً يُعبد، وحاشا لله أن يكون هذا صحيحاً فإنه مناقض للحقيقة، ولا يتفق مع ما أكرم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم الذي عصمه من الناس وأكرمه وقال له: (وانك بأعيننا) وليس هذا الكلام إلا من قبيل إثارة الفتن والإساءة إلينا جميعاً، لأن هذا المكان صلت فيه أم المؤمنين السيدة عائشة، وهي أعلم النساء، وبقيت فيه بعد وفاة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلّت فيه بعد أن دُفن فيه أبوها سيدنا أبوبكر الصديق بجوار سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم صلّت فيه بعد أن دفن سيدنا عمر بن الخطاب، أو كانت تفعل ذلك، ولو كان الأمر كما قال أولئك وهي أم المؤمنين ومن أفقه الناس بالتوحيد، وتربّت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الصحابة كلهم قد صلّوا في المسجد النبوي المبارك، وفي جانبه بيت النبي صلى الله عليه وسلم وقبره الشريف، هم أعلم الأمة بدين الله، بل إن دفنه صلى الله عليه وسلم في بيته حيث قبض في حجرة عائشة رضي الله عنها هو شرع من الله عز وجل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما قبض نبي إلا دُفن حيث قبض) فلذلك دُفن في المكان الذي قُبض فيه صلى الله عليه وسلم.

ومن هنا فنحن لا نقبل ما ينسب إلى الوهابية، ونعتبره من الأقوال الباطلة، لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يدع قط إلى هدم مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كل الرسائل التي كتبها تدعو إلى احترام سنّة رسول الله وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها الجهالة والغوغائية التي تنتشر في أنحاء العالم الإسلامي، فتتهمنا مثل ما تتهم الصوفية باتهامات لا أصل لها وممارسات ليست مسؤولة عنها، ولهذا فقد عتبت على تسميتك لها بالداء مع أنها في حقيقتها دواء وليست بداء.

أما الوقفة الرابعة: فهي بخصوص ما ذكرته يا شيخنا الحبيب من أن قصيدة الشاعر الكبير بيرم التونسي قد نسبها البعض لسمو الأمير عبد الله الفيصل، فهذا من التخرصات والتهاويل التي عهدناها جميعاً من رجال يلقون القول على عواهنه، ولا يحسبون حساباً لأبعاد ما يقولون، وإلا فهذه القصيدة معروفة، وبلغة أهل بلد بيرم التونسي المصري، وبروحه المعروفة وقد تبتّل إلى الله في آخر أيامه، وصدحت بها السيدة أم كلثوم، ولم نسمع اعتراضاً من سمو الأمير عبد الله الفيصل ولا من أحد وإنما هي كما ذكرت لك تخرصات وأقاويل باطلة، وقد سبق أن سمعناها يوم تحدثوا عن ثورة الشك، وعن قصة الأمس لسموه وللشاعر أحمد فتحي رحمهم الله جميعاً، ولكننا لم نلتفت إلى كل ذلك، ونُسب كل عمل إلى صاحبه الذي أعلنه على الناس، والناس مؤتمنون على قصائدهم، ما لم يثبت خلاف ذلك، ومن هنا فإننا لا نلتفت إلى مثل هذه الاتهامات بأي شكل من الأشكال، وأحسب أن تشاركني الرأي في ذلك.

والوقفة الخامسة: بخصوص تعليقك على مقولتي (إلّى في القلب في القلب) فليس لك في القلب إلا الاحترام والتقدير، فهذه مقولة يقولها الإخوة السودانيون تعبر عن مكنون الحب في قلوبهم وانه لا يتغير ولا يتبدل.

أما الوقفة السادسة فهي: عن موضوع رياض الصالحين فإن كان سوء تعبير مني أو سوء فهم فأنا لم أقصد هذا وإنما قلت بأن حديثك عن الأخ الحبيب الدكتور غازي واستشهادك بطوق الحمامة وبتلك الكتب والأئمة الذين رصدتهم في ردك، أشعرني وكأنك ستدخله في مراجع رياض الصالحين ولم أقصد إلا الدعابة والإطراء والله على ما أقول شهيد، وهو أعلم بالسرائر، أما التعبيرات فقد يخطئ المرء في التعبير عن مكنونه أو يخطئ المتلقي في فهمه وإن كان هذا أو ذاك، فما لك من رصيد في نفسي من حب وتقدير، وما لهذا الشاعر الكبير الإنسان كذلك يشفعان لكما وما أحسبه في أنفسكما لي يجعل المسألة في إطار الدعابة والحب المتبادل وليس النقد، وذكري لكتاب رياض الصالحين لأني أعرف ما لهذا الكتاب من مكانة في نفسك من صدق رواية ودقة حديث، فرياض الصالحين هو من أمهات كتب السنّة المعتمدة، وتضمن تلك التوجيهات النبوية السامية، وعرضها بأسلوب مهذب وروح سامية، وقد انتقاه مؤلفه من أمهات كتب السنّة المعتمدة وجعله ذا ميزة في كونه رافداً مهماً للراغبين في معرفة السنّة، بل والواعظين والعلماء والمتعلمين ولهذا فأنا أعرف قدر الكتاب إن شاء الله وإنما كنت أداعبك بقولي انك قد أطريت على الدكتور غازي القصيبي، وتجولت بنا في كتب جميلة من التراث حتى ظننت انك ستذكر شيئاً من رياض الصالحين ولم أقصد يا أبا عبد الرحمن غير الإشارة إلى هذا الكتاب العظيم، ومعرفتي بأنك من الذين يعرفون قدره ومقداره.

الوقفة السابعة: أما حديثي عن أستاذنا الشيخ المربي عبد العزيز الخويطر فقد فرحت بعزمك على مداعبته، فلعلك تخرجه عن صمته عن الحوارات، وهو رجل اشتهر بالهدوء، وكأن نفحات من رياح الأرز تهب عليه وتهدئ أعصابه وتدعوه إلى عدم المناكفة، فإن أخرجته عن هذا فهذا توفيق لأنه من الرجال الذين نعتز بهم ونكره صمتهم عن بعض القضايا الجوهرية في حياتنا، وربما انه ما زال يعتبرها من الأسرار التي يكره الحديث عنها في المرحلة الراهنة. وإن كان يغمزني بين وقت وآخر ويتهمني بحب الظهور، ولا أملك إلا الصمت والسماح لأنه ذو فضل عليّ أنا والزملاء الذين تربينا على يده، وهذا ما يشفع له في عدم مناكفته، ولكنك أقدر، ورصيدك أوفر، وحديثك أعذب، فإن فعلت شكرنا لك.

الوقفة الثامنة: عن حديثك أيها العزيز عن موضوع الحبل على الجرار، فإنما قصدت به وأرجو الله أن لا يساء فهمي أن الإخوة في لبنان عندما يعبرون عن استمرار أمر يقولون هذا التعبير الجميل (الحبل على الجرار) أي أن الحبل الذي يحمل الدلو ما زال على الجرار الذي يستخرج الماء من البئر دلواً بعد دلو، فيقال: والحبل على الجرار، ولم أقصد به وأقسم بالله على ذلك أي معنى سيئ بقولي: الحبل على الجرار، وإن كان بعض الناس قد حوّلوها وجعلوها سبة، وقد كانت كلمة (جرار) تعني القائد الذي يسير معه الجيش الكبير، وهذا ما عبّر عنه الشاعر بقوله:

واني لجرار لكل كتيبة

معودة أن لا يخيب بها النصر

ولكنه حال اللغة يا أبا عبد الرحمن حتى أصبح الناس في بعض البلدان يغضبون من كلمات نعتبرها كريمة عندنا وأصبحوا يعتبرونها شتائم أو على الأقل كلمات غير مقبولة، فهذا والله ما قصدته أيها العزيز وان كنت أسأت الفهم فما لي إلا طلب السماح من أهل السماح.

أما الوقفة التاسعة: فإنني أؤيدك فيما ذهبت إليه من الحديث عن الصدق الفني، وانه حال أكثر الشعراء، وهو من المباح في السيرة العملية كلامية كعب بن زهير رضي الله عنه التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها:

نبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

وان ما يعتبر منكراً فعلاً هو الفحش، ولنا مثال آخر عن ذلك الشعر في تلك القصائد الجميلة التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسان بن ثابت التي أنشدها أمام رسول الله صلى الله علي وسلم:

وقال الله قد أرسلت عبدا

يقول الحق إن نفع البلاء

شهدت به فقوموا صدقوه

فقلتم لا نقوم ولا نشاء

وقال الله قد يسرت جندا ً

هم الأنصار عرضتها اللقاء

ألا أبلغ أبا سفيان عني

فأنت مجوف نخب هواء

هجوت محمدا فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

هجوت مباركا برا حنيفا

أمين الله شيمته الوفاء

فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

وأحسن منك لم تر قط عيني

وأجمل منك لم تلد النساء

خلقت مبرأ من كل عيب

كأنك قد خلقت كما تشاء

وكذلك قصيدة عبد الله بن رواحة وكان قد قالها في عمرة القضاء:

خلوا بني الكفار عن سبيله

اليوم نضربكم على تأويله

ضربا يزيل الهام عن مقيله (2)

ويذهل الخليل عن خليله

وعتب عليه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائلاً: يا ابن رواحة أفي حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول هذا الشعر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خل عنه يا عمر فو الذي نفسي بيده لكلامه أشد عليهم من وقع النبل).

وهم صفوة من الشعراء آمنوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ودافعوا عن دين الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليهم ويؤيدهم بل ويفرح بهم ويحثهم ويشجعهم على الشعر.

أما الوقفة العاشرة: فهي بخصوص دعم وتأييد جاءني من الصديق الأديب الأستاذ عبد الله عمر خياط، وهو شاهد عليك، فهو صهر لك في الكلمة والأدب، ونهل من المعين الذي كنت تنهل منه، فقد كان صديقاً لأستاذنا الشيخ أبو تراب الظاهري رحمه الله، وقد علق بأسلوبه الأدبي الظريف على الحوار الذي يجري بيني وبينك وشهد بشاعرية الدكتور غازي وإبداعه ولكنه اختلف معك في شهادة لم تكن في رأيي دقيقة وإنما كان دفاعاً لا مبرر له ولا سند فقال الأستاذ عبد الله خياط:

فالدكتور غازي القصيبي شاعر مبدع في كل ما قدمه لقرائه ومن ذلك شعر الغزل الذي سجل هو نفسه اعترافه باحترافه في أول ديوان صدر له وعنوانه (جزائر اللؤلؤ) إذ يقول في قصيدة بالديوان عنوانها (من نحن):

أنا مثلكم أبكي وأضحك حين تأمرني الظروف

أنا مثلكم لي والحسان مغامرات صاخبات

عشرا هجرت ولا أعد الباقيات

وأنا الذي أدري بأني لم أنل حتى الخيال

حتى التحية من فتاة

فلنعترف يا أصدقاء

أنا جميعا أغبياء

نحيا على الوهم الكبير ونستزيد من الشقاء

وإذا ارتمى أحد تجمعنا عليه

وبنظرة جف الحنين بها

منحناه التراب

بكل صراحة يعترف الدكتور القصيبي أن له والحسان مغامرات صاخبات، ولا أحسب أن بعد الاعتراف ثمة حاجة إلى دليل لكن حسبنا من المعركة الدائرة بين الدكتور اليماني والشيخ ابن عقيل سمو الحوار الذي أرجو أن يتعلم منه الآخرون، وتحية للجزيرة التي فتحت لهم صفحاتها لهذا الحوار الثقافي الرفيع المستوى.

وختاماً لهذه الحلقة وهي الأولى أبعث لك بعاطر تحياتي وتقديري واعتذاري إن كنت قد أسأت التعبير هنا أو هناك، فأنت رجل ذو مكانة في نفوسنا ونعتز بأدبك، ونفرح بحوارك.

وإلى اللقاء في الحلقة الثانية إن شاء الله

* * *

(1) صحيح مسلم، جاء في رواية الطيالسي وأحمد والنسائي وغيرهم بلفظ (ومن علينا بك)

(2) مكانه


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد