Al Jazirah NewsPaper Friday  26/06/2009 G Issue 13420
الجمعة 03 رجب 1430   العدد  13420
رجال صدقوا: عمر بن الخطاب رضي الله عنه
د. محمد بن سعد الشويعر

 

ثاني الخلفاء الراشدين، فقد كان أول ما ظهر الإسلام أشدّ شباب قريش على المسلمين، ثم أسلم فكان فتحاً على المسلمين مفرّجاً لهم من الضيق، وما عَبَد المسلمون الله جهرة حتى أسلم عمر، ذكر ابن عبيد عن عمر قال خرجت أتعرّض للرسول عليه السلام، فوجدته سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح الحاقّة، فجعلتُ أتعجّب تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش..

..فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}، فقلت: كاهن. ولما قرأ {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}. حتى ختم السورة قال: عمر فوقع الإسلام في قلبي كلّ موقع .. فأسلم في السنة السادسة من البعثة وعمره (27) سنة.

قال ابن مسعود: إنّ إسلامه كان فتحاً، وهجرته كانت نصراً، وسلطانه كان رحمة، وقال رسول الله (إنّ الله عزّ وجلّ جعل الحق على قلب عمر ولسانه)، فقد وهب الله عمر علماً، وأعطي حكمة وفقهاً في الدين، حيث رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصّ على أصحابه رؤيا فقال: رأيت في النوم كأني أعطيت عُسّاً - وهو القدح الكبير - مملوءاً من لبن فشربت منه، حتى تملأت، فرأيته يجري في عروقي بين لحمي وجلدي، وفَضّلت منه، فأعطيتها ابن الخطاب، فأوّلوها؟ قالوا: يا نبي الله هذا العلم أعطاكه الله عز وجل حتى إذا امتلأتَ منه فضلت منه فضلة فأعطيتها عمر، قال عليه الصلاة والسلام: (أصبتم) رواه أحمد.

وقد دعا رسول الله ربه بأن يعزّ الإسلام بأحبّ الرجلين إليه، بأبي جهل، أو بعمر بن الخطاب، فكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب، فلما أسلم نزل جبريل فقال: يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر.

وبرزت مكانة عمر العلمية بموافقته للقرآن الكريم في عدة حوادث، وقد نظمها السّيوطي شعراً، في موافقته القرآن والتوراة والسنّة.

وقد ذكر الدكتور رويعي بن مراجح الرّحيلي في كتابه الذي يبلغ ثلاثة أجزاء، بعضاً منها تبلغ (14) موافقة، منها:

1- أنّ عمر أشار على نبي الله، قبل نزول القرآن، بأن يتخذ من مقام إبراهيم مصلّى، فأنزل الله {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.

2- أشار عمر على نبي الله: بأن يأمر نساءه بالحجاب، فأنزل الله {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ}.

3- استشار رسول الله الصحابة في أساري بدر فكان رأي عمر أن يقتلوا، ولا يؤخذ منهم الفداء، فنزل قول الله {مَا كَانَ لِنَبِي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ...}الآية.

4- اجتمع نساء رسول الله عليه في الغيرة، فقال عمر (عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله زوجاً خيراً منكنّ) فنزلت.

5- أنّ يهودياً لقي عمر فقال له: إن جبريل الذي يذكره صاحبكم عدوٌّ لنا، فقال {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ}الآية .. فنزلت.

6- اختصم رجلان إلى النبي فقضى بينهما، فقال أحدهما للآخر ردّنا إلى عمر، فأتياه فقصّا قصتهما، فقال عمر لهما: مكانكما، فدخل ثم خرج مشتملاً سيفه، فضرب الذي قال: ردّنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: ما أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن، فأنزل الله {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .. الآية، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دم القتيل، وبرّأ عمر من قتله.

فهذه النماذج مما أوردها الدكتور رويعي عن شهادة القرآن الكريم، بسداد رأي عمر وتفوقه العلمي، وقد أورد سبعة نماذج من شهادة السنّة، ثم نماذج متعددة من شهادة سلف الأمة وخلفها، بتفوق عمر، وعلمه العام، وقد أورد الكاند هلوي في كتابه: حياة الصحابة نماذج من هذا، وكما جاء في مجمع الزوائد.

وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنّ عمر كان أعلمنا بالله، وأقرأنا لكتاب الله، وأفقهنا في دين الله.

وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ممّن عرف لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فضله وقدره، فقد روي بالسند المتصل عن عبيدة قال: لما بلغ علياً أنّ رجلاً ينال من عمر وأبي بكر رضي الله عنهما: أتى به فجعل يعرّض بذكرهما، وفطن الرجل فأمسك، فقال له علي: أما لو أقررت بالذي بلغني عنك، لألقيت أكثرك شعراً .. يريد قطع رأسه.

وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أغرم رجال الغرب وعلماؤهم بسيرته وأعماله وسياسته: لأمر الدولة وعدله، حتى قال أحدهم: لو لم يكن في تاريخ العرب والمسلمين إلا عمر لكفاهم.

واهتم العقاد بحياة عمر وأعماله فألّف في ذلك كتاباً، ضافياً سمّاه عبقرية عمر.

وكان وَرِعاً عادلاً زاهداً، رُوي في اهتمامه بالرعيّة، وتفقد أحوالهم، وقائع كثيرة، من ذلك ما قاله زيد بن أسلم عن أبيه، قال: خرجنا مع عمر إلى حرّة واقم، حتى إذا كنا بصرّار - موقع على ثلاثة أميال من المدينة - إذا بنار فقال: يا أسلم إني لأرى ههنا ركباً قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا.

فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضّوء، وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ قالت: ادنُ بخير أو دع، فدنا وقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا البرد والليل، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فأيّ شيء في هذا القدر؟ قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا والله بيننا وبين عمر.

فقال: أي رحمكِ الله، وما يدري عمر؟ قالت: يتولّى أمرنا ثم يغفل عنا .. قال أسلم: فأقبل عليّ ثم قال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول، حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدْلاً، من دقيق وكبّة من شحم، فقال: احمله عليّ: فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أمّ لك، فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذُرّي عليّ، وأنا أحرك لكِ، وجعل ينفخ تحت القدر، والدخان على لحيته، ثم أنزلها، فقال لها: أبغي شيئاً، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، ثم جعل يقول لها: اطعميهم وأنا أسطح لهم.

فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك، وقام وقمتُ معه، فجعلتْ تقول: جزاك الله خيراً، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً، إذا جئتِ أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله.

ثم تنحّى ناحية عنها، ثم استقبلها فربض مربضاً فقلنا: إنّ له شأناً غير هذا، ولا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدأوا، فقال: يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببتُ أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت.

وفي تحريم الخمر، جاء في الدّر المنثور: أنّ أبي شيبة أخرج وأحمد وأباداود والترمذي، وصححه النسائي وغيرهم، عن عمر بن الخطاب قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فإنها تذهب العقل والمال، فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...}(219) سورة البقرة، فَدُعي عمر، فقرئت عليه، فقال اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية (43) من سورة النساء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أقام الصلاة، نادى لا يقربنّ الصلاة سكران، فَدعُيَ عمر فقرئت عليه، فقال (اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية (90) من المائدة فَدُعيَ عمر فقرئت عليه، فلما بلغ {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}.قال عمر: انتهينا انتهينا.

وكانت له رضي الله عنه أوليات في تاريخ الإسلام، واجتهادات في أمور الدين، وحرص على تثبيت الأحكام الشرعية في ذلك - إنه أول من أعلن التسليم في الصلاة - وأول من جهر السلام، فأنكرتْ الأنصار عليه ذلك.

- وأول من رفع مقام إبراهيم فوضعه في موضعه الآن، وإنما كان في قبلة الكعبة.

- وأول من حصب المساجد، إذ كانت مساجد سبخة يثور غبارها بالأقدام، كما قال ابن سيرين.

- وأول من دوّن الدواوين، وعرّف العرفاء - وفيها تنظيم للمصروفات وأصحاب العوائد من بيت المال.

- وأول من جعل العشور في الإسلام.

وما ذلك إلا من فقه عمر رضي الله عنه، وغزارة علمه، وعمقه في فهم تعاليم الإسلام، ودلالات نصوصه، وفق ما أمر الله في كتابه الكريم، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث كانت اجتهاداته صائبة، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن قبيصة بن جابر قال: ما رأيت رجلاً قط، أعلم بالله ولا أقرأ لكتاب الله ولا أفقه في دين الله من عمر.

وما ذلك إلاّ أنّ أمة الإسلام قد دُعيت على لسان رسولها صلى الله عليه وسلم بأن تأخذ من فهم عمر رضي الله للدين قدوة تنتهجها، حيث رُوي عن حذيفة - أمين سر رسول الله - قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، كما رُوي أنه وأبا بكر كانا يفتيان الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي.

ولمكانة عمر في الاجتهاد والقياس، نراه يتوثق من الصحابة، ويشاورهم في كثير من أموره، حيث يجد المتابع لكتب الفقه والأصول على المذاهب الأربعة: استدلالات بأعمال عمر، وتطبيقاته كما حصل في عام الرّمادة، عندما اشتد القحط بالناس، فإنه درأ حد القطع في السرقة، وفي مجال الترجيحات التي قال بها أو فعلها عمر بن الخطاب، نرى محمد الكتّاني في كتابه معجم فقه السلف، قد أورد أكثر من (300) ثلاثمائة مسألة، أما ابن قُدامة في المغنى، فقد أورد له ما يقرب من (1000) ألف مسألة، وابن رشد في فتاواه على المذهب المالكي استشهد بأكثر من (40) أربعين مسألة من فقه عمر، وغيرهم من كتب الفقه.

ممّا أوجب الاهتمام في الجامعات بفقه عمر واجتهاداته في الرسائل العلمية، وله رضي الله عنه اجتهادات في الفرائض وتقسيم المواريث، حيث إنّ مسألة في الفرائض سمّيت بالعمريّة.

قال ابنه عبدالله: كان عمر إذا سلك طريقاً فاتّبعناه، وجدناه سهلاً، وأنه قد أُتيَ في امرأة وأبوين فقسّمها من أربعة: فأعطى المرأة الربع، والأم ثلث ما بقي، وجعل ثلثي ما بقي للأب.

ويكفيه شرفاً أنّ عدو الله إبليس، يخاف منه، ولا يسلك طريقاً سلكه عمر، حيث رُوي بسند متصل عندما عاد رسول الله في إحدى مغازيه، أتته أمة سوداء، فقالت: إني نذرت إنْ ردّك الله سالماً، أن أضرب عندك بالدفِّ، قال: إن كنتِ فعلتِ فافعلي، وإن كنتِ لم تفعلي فلا تفعلي، فضربتْ فدخل أبو بكر وهي تضرب، ودخل غيره وهي تضرب، ودخل عمر، فجعلتْ دفّها خلفها، وهي مقنّعة، فقال رسول الله (إنّ الشيطان ليفرق منك يا عمر، أنا جالس ها هنا، ودخل هؤلاء، فلما دخلتَ فعلتْ ما فعلتْ).

فرحم الله عمر فقد كان شجاعاً في الإسلام، عادلاً في الرعيّة، متواضعاً في نفسه فقيهاً في أمور دينه، مجتهداً في تتبّع الصحابة وحفظهم لأحاديث رسول الله خوفاً منه على الأمة أن تزلّ.

وقد قتله أبو لؤلؤة المجوسيّ، وهو في الصلاة عام 23هـ وعمره 63 عاماً، كما هو عمر رسول الله وعمر أبي بكر الصديق.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد