Al Jazirah NewsPaper Friday  26/06/2009 G Issue 13420
الجمعة 03 رجب 1430   العدد  13420
بين اثنين
فيلم إسرائيلي خارج المألوف حول وضع لا أمل فيه

 

هوليود - محمد رضا:

حين الحديث عن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن الجانب العسكري والسياسي حول الوضع القائم الذي يحاول فيه الفلسطينيون والعرب عموماً إيجاد صيغة توافق تستطيع فيها الدولة الفلسطينية أن تُقام وتؤسس على ثوابت وطنية لها استقلاليتها وحريّتها وكافة المكوّنات المفترضة بدولة حقيقية.. في المقابل، تسعى إسرائيل، على امتداد حكوماتها وحيناً بالكلام المطمئِن المعسول وحيناً آخر بالعنجهية المعتادة، نسف كل هذا الحق المشروع والاستمرار في استنزاف الوضع آملة إلغاء ما حققه الفلسطينيون إعلامياً وسياسياً من إنجازات (على قلّتها) وتثبيت وضع أخفق الكيان الصهيوني في إثباته بذات الطرق خلال السنوات الستين الماضية.. لكن هناك صراعاً آخر دائراً قلّما نعيره الاهتمام الجدير به يقع على نحو مرادف للصراع الأول.. إنه صراع قائم بين الإنتاج السينمائي الفلسطيني والإنتاج السينمائي الإسرائيلي.. قد يعتبره البعض صراعاً سياسياً أو صراعاً مكمّلاً للصراع السياسي والعسكري الدائر، لكن الحقيقة هي أنه صراع منفصل ولو أنه - بالطبع - لا يخلو من السياسة.. وهو متبلور في المهرجانات السينمائية العالمية وعبر الحضور المُتاح لكل إنتاج وما يساند هذا الحضور من وعي عام أو من تأييد أو مجرد انحياز لا يزال يتخبّط في مضارب العواطف العنصرية والطائفية.

والمراقب يجد أن السينما الفلسطينية، وثائقية أو روائية، تحقق تقدّماً ملموساً سواء عبر اشتراكها في المهرجانات السينمائية أو حتى عبر الفرص التي تُتاح لها لكي تعرض في الأسواق الغربية التجارية.. فخلال أسابيع ثلاثة من الشهر الماضي، تم عرض فيلم إيليا سليمان: (الزمن الباقي) (في مسابقة مهرجان (كان) الأخير وهو الفيلم الذي يتناول سيرة الوضع الفلسطيني من العام 1948 وإلى اليوم تناولاً رمزياً في أماكن وإيحائياً في أماكن ووضعياً في أماكن أخرى.. كذلك شهد فيلم رشيد مشهراوي: عيد ميلاد ليلى تجارياً في نيويورك، وهو فيلم قائم - كباقي أفلام مخرجه - على فكرة بسيطة المنطلق حول سائق التاكسي الفلسطيني المُحاط بالظروف الصعبة المتداولة كل يوم والذي يرفض أن يكون طرفاً في نزاع مسلّح وأن يكون ضحيته.. في الفيلم يلعب محمد بكري شخصية ذلك السائق الذي سيحتفل رغم كل متاعبه بعيد ميلاد ابنته مع نهاية يوم عمله.. هذا النشاط الذي جعل من واحدة من أضعف سينمات العالم إنتاجاً، وهي السينما الفلسطينية، قادرة كل عام ومنذ مطلع هذا العقد أن تحقق نتائج لم تحققها السياسة حيال القضية ذاتها.. فكل عام تخرج كوكبة من الأفلام التي تتناول الحياة الفلسطينية - الفلسطينية أو الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال.. وقبل سنوات تم ضم أحد هذه الأفلام، وهو (الجنة الآن) لهاني أبو أسعد إلى النخبة المرشّحة رسمياً للأوسكار، بينما حصدت أفلام فلسطينية أخرى جوائز في برلين وكان وفانيسيا ودبي من بين مهرجانات أخرى.

التفاؤل الساذج

أما السينما الإسرائيلية، وهي تنتج بالطبع أفلاماً أكثر (نحو عشرين فيلماً في العام وتطمح لمزيد) فيجدها المتابع تميل إما إلى تجاهل الموضوع الفلسطيني بأسره، محاولة تقديم أفلام اجتماعية داخلية تبحث في الموضوع اليهودي أو الإسرائيلي بمنأى عما يحدث على الحدود (وهذا في نهاية المطاف من حقّها).. وإما إلى التعامل مع هذا الموضوع الفلسطيني كحال واقع يتطلّب طرحاً ما.. هذه الفئة الثانية على نوعين: نوع صادق (وهو قليل).. ونوع كاذب وهو كثير يعمد إلى لوي الحقيقة ومزج المواقف وتنميط الشخصيات حتى يخرج المشاهد، الغربي أساساً، مقدّراً رغبة السينمائي الإسرائيلي التعرّض للوضع ومؤيداً ما يذهب إليه في لفائف طروحاته من أن المجتمع الإسرائيلي يجب أن يبقى موحّداً درءاً للخطر القادم من الخارج وأن إيجاد حل ما للفلسطينيين عليه أن يمر من (فلتر) المصلحة الدولة اليهودية في البقاء.. لذلك، حين يتقدّم فيلم يحمل سمات مختلفة عن السائد هناك، يسترعي الانتباه على أساس أن هذا الاختلاف يتيح الفرصة للإدلاء بصوت يحمل قدراً من الحقيقة وشيئاً من توافق النظرة للموضوع إنسانياً وسياسياً?

فيلم (إلى أبي) لمخرج إسرائيلي اسمه دروري زاهافي ليس نموذجياً ولا يخلو من تنميط ومحاولة مسح جوخ لشخصيات دون سواها، لكنه من بين أصدق ما قدّمته السينما الإسرائيلية من بين الإنتاجات التي تعاطت مع الموضوع الفلسطيني - الإسرائيلي.. والمشاهد يستطيع التأكد من صدقه حين يصل إلى الفيلم إلى نهايته.. هناك يرفض زاهاي إنجاز خاتمة سعيدة مطمئنة تحمل تفاؤلاً ساذجاً بحياة أفضل ومستقبل سلمي سيتحقق رغم الصعاب كما فعلت أفلام أخرى بما فيها (زيارة الفرقة) لمخرجه إيران كوليرين. الاختلاف هو أن الأفلام التي تبدي تفاؤلاً إنما تشيع لأمل زائف يحاول تجاوز المعيقات القائمة والحقائق التي على الأرض.

مبارزة فردية

يبدأ فيلم (إلى أبي) من حيث انتهى فيلم هاني أبو أسعد (الجنّة الآن).. يأخذ المخرج زاهاي الخيط من آخره.. فالفيلم الفلسطيني تناول قصّة شاب فلسطيني تم تدريبه وإرساله إلى تل أبيب لكي يفجّر نفسه في أي مكان يجد فيه مواطنين أو جنوداً إسرائيليين.. وحافزه النفسي كون والده تعامل في زمانه مع اليهود واعتبر خائناً وهو يريد تبرئة نفسه وتبعيّته بقبول المهمّة.. في الوقت ذاته، ولنفس الأسباب فإن القيادة لا تثق به? في نهاية ذلك الفيلم، يعدل عن مهمّته لأنه لا يستطيع أن يفجّر نفسه في أبرياء لا يراهم مذنبين فيما حاق به.

الفيلم الإسرائيلي، يقدّم شاباً آخر في مهمّة مماثلة.. يصل إلى تل أبيب محمّلاً بالمتفجرات ثم يعدل - أيضاً - عن القيام بها ولذات السبب: قتل الأبرياء ليس حلاً.. الأكثر من ذلك أن الدافع الخفي هو أن والده تعامل مع العدو، وأن القيادة ترتاب به أيضاً.. على عكس ما ورد في الفيلم السابق، سوف لن يتبرّع الشاب الفلسطيني بعزوفه عن تفجير نفسه وإلحاق الضحايا باليهود من لحظة وصوله، بل سيقوم، عندما لا تنفجر العبوّة، بتأجيل العملية لحين إصلاح العطل الذي أصاب الساعة المستخدمة للتفجير.. طارق، بطل الفيلم يتوجه إلى محل رجل يهودي عجوز كامن في الحارة العتيقة.. وهذا لا يرتاب في أمره ويحسن استقباله ويعرض عليه المبيت ليومين ريثما يستطيع إصلاح الساعة.. طارق، في المقابل، يعرض على العجوز إصلاح سقف بيته المجوّف حيث يهطل الماء طوال الوقت.. خلال هذين اليومين سيتعرّف على فتاة يهودية اسمها كارن (هيلي بالون) تملك محلاً صغيراً مواجهاً.. الفيلم يعالج هنا مشكلة الفتاة الشابة مع متطرّفين يهود متديّنين يتدخّلون في حياتها ويؤنبونها على طريقتها الحرّة والمستقلة في الحياة.

في أحد المشاهد، يسمح المخرج لطارق بضرب قائد تلك المجموعة ورميه أرضاً.. وهذا ينسحب بفم دامٍ ويتوعّد بالانتقام.. لكن الفيلم، ببراعة، ينأى عن تحويل المسألة إلى مبارزة فردية بين طرفين.. ما يهمّه هو تقديم وضع لا يربح فيه أي طرف والبحث في دوافع طارق النفسية والظروف العائلية والاقتصادية التي جعلته يقرر تلبية نداء المجموعة التي أرسلته والتي تستطيع تفجيره بمجرد الاتصال به هاتفياً إذا أرادت.

طارق يريد تنظيف صيت أبيه (نقطة لقاء أخرى مع فيلم هاني أبو أسعد) وهو يوزّع غضبه على الجميع. كارن ستحاول كشف سرّه.. إنه يعجبها.. دمث ولطيف ومنطوٍ.. يثيرها لُغزه لكنها لا تتصرّف كما لو أنها تريد فرض نفسها عليه.. كلاهما يطلب من الآخر أمناً لا يجده حوله.. لا هي تجده في الوتيرة المتطرّفة التي تنتشر بين جيرانها، ولا هو يجده في عالمه المحمّل بالشعور بالذنب والغائص في إحباطات متوالية. الفيلم لا يقدم لنا عربياً ساذجاً.. كذلك لا يقدّمه شريراً ولا نمطياً من أي نوع.. بل مجرد انسان طيّب ضحية انشقاق جوفي بين عالمين.. وفي نهاية الفيلم سيفجّر نفسه لكن نفسه فقط بعدما نزع من العبوّة ذخيرتها الشديدة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد