Al Jazirah NewsPaper Saturday  27/06/2009 G Issue 13421
السبت 04 رجب 1430   العدد  13421
بين الكلمات
الإعلام في مهب الريح (1)
عبدالعزيز السماري

 

فرضت حرية التعبير هيمنتها على القرن الجديد، ولم يعد بالإمكان الرجوع إلى عصور الأنظمة الشمولية ومناهج توحيد الآراء وحصرها في قالب محدد لا يُسمح بتجاوزه، بل أصبح هناك من يطالب بإعطائها مساحة أكبر لما لها من تأثيرات إيجابية على تطور الأوطان وفي قدر خروجها من مستوى العالم الثالث الذي من أبرز معالمه التخلف والجمود والتقليد..

يستحق العصر الجديد بكل جدارة لقب عصر حرية التعبير، إذ لم يمر في تاريخ البشرية ما يحدث من تكسير وتهشيم للجدران والعوازل داخل المجتمعات وخارجها، فقد أصبح للرأي العام منابر غير معهودة، وخارجة عن الرقابة التي فقدت قدراتها السحرية بعد أن تحولت بسبب التقنية إلى أثر أمام السيل العارم من الأخبار والأحداث على المواقع والجرائد الإلكترونية..

في الماضي كان الخبر يحتاج إلى إعادة إنتاج ثم صياغة بلغة رسمية لا تحتمل التأويل، وعادة ما يتم فرزه قبل إقرار نشره، إن كان صالحاً للنشر وإعلام الناس أم من المصلحة العامة أن يُحجب، وإن حدث وتمت إجازته، قد يتطلب الأمر دراسة أخرى عن تأثيراته بعد نشره، سلبية كانت أم إيجابية؟..

لكن الزمن الحاضر لم يعد يحتمل ذلك التردد والبطء في نقل الأخبار، فقد خرجت صناعة الخبر وإنتاجه عن الرسمية، إذ يتم إنتاج الخبر حالياً في الشارع بواسطة هاتف منقول صوتاً وصورة ثم إرساله إلى المواقع الإخبارية واليوتيوب، لينتشر بسرعة ويشاهده مئات الآلاف في زمن قياسي، والمتابع للأحداث الإيرانية قد يلحظ قوة إعلام الشارع في نقل أحداث المظاهرات يومياً بالرغم من المنع الرسمي للقنوات الإخبارية من نقل الأحداث اليومية..

كذلك دخل إعلام الشارع مسرح الأحداث المحلية، وتجاوز الحصر الرسمي، وتحول الناس بمختلف أطيافهم إلى مراسلين مجهولين بسبب التطور المذهل لتقنية الاتصالات، فالحدث المحلي كذلك يتم نقله فورياً بكل ما يحمل من تراجيديا أو كوميديا عبر هواتف نقالة ومحملة بأدوات التسجيل صوتاً وصورة، وغالباً ما نشاهد في قلب الحدث من يرفع هاتفه النقال عالياً وموجهاً إلى الحدث من أجل تسجيله ثم إرساله إلى موقع إخباري، والعصر الجديد لم يعد يحفل بالخصوصية، ويدفع نحو شفافية مفرطة في نقل الصوت والصورة، قد تصل أحياناً إلى حد التشهير.. لكنه عصر الخروج عن المألوف، وشئنا أم أبينا علينا أن نتقبل بعقلانية كل تبعاته السلبية والإيجابية، وذلك لسبب بسيط وهو أننا لا نستطيع أن نعيش خارجه..

ما يحدث يشكل ضغطاً هائلاً على دوائر الإعلام الرسمي، فالصورة الرمزية للعصر الحديث يمكن اختزالها في صورة تظهر تصدع ثم انهيار جدار الرقابة التاريخي، فالتقنية فرضت على الناس الدخول إلى العصر الجديد وإلى نقل التحكم بتفاصيل ولغة الخبر من مكاتب الإعلام الرسمي إلى شوارع وميادين وكاميرات الهامش..

لم يعد هناك مانعاً رقابياً إلا سلطة الأخلاق.. والتي تختلف من مجتمع إلى آخر، وتتعدد فيها وجوه الفضيلة نتيجة لتفاوت معاييرها بين الناس، فالأفعال والأغراض يحكمها الفضول والرغبات الشخصية في معظم الأحيان..، وهو ما قد يبرر لإعلام الشارع أن ينقل أحياناً الصورة بمنتهى الوضوح من أجل أهدافه، كما حدث في نقل أحداث موت الفتاة الإيرانية في أحد شوارع طهران خلال المظاهرات الأخيرة..

ما يحدث هو جزء من تلك الصورة التاريخية التي تكاد لا تخلو على مر العصور من رمزية السباق بين تفوق النخبة وفضول العامة، وبين سيادة السلطة وسيكولوجية الجماهير، وهو إرث إنساني لم تنقطع أنساقه منذ آلاف السنين، والكرة الآن في ملعب السلطة، فإعلام الشارع صار يزاحم الإعلام الرسمي ويحاول إحراجه أمام المجتمع، ولا يفترض أن تخرج اللعبة عن قوانينها الإنسانية، وأن تثبت النخبة أنها قادرة بإمكانيتها الفنية والمادية إعادة المشاهد إلى متابعة برامجها اليومية..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد