Al Jazirah NewsPaper Sunday  28/06/2009 G Issue 13422
الأحد 05 رجب 1430   العدد  13422

أدبيَّات الشُّخْتُورَين (3-3)
كتبه لكم أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -

 

أناخ الشهرزوري ركابَه عند إخوانه من صرعى الوَجْد، فقال:

فحططنا إلى منازل قومٍ

صَرَعَتْهم قبل المذاق الشَّمول(1)

درس الوجدُ منهم كلَّ رسمٍ

فَهْوَ رسم والقوم فيه حُلُولُ(2)

منهمُ من عفا ولم يُبق للشكوى

(م) ولا للدموع فيه مقيلُ(3)

ليس إلا الأنفاسُ تُخبر عنه

وَهْوَ عنها مُبرَّأٌ معزول(4)

ومن القوم من يشير إلى وجد

(م م) تبقَّى عليه منه القليلُ(5)

ولكلٍّ منهم رأيتُ مقاماً

شرحه في الكتاب مما يطولُ

قلت أهلَ الهوى سلام عليكم

ليْ فؤادٌ بكم عنكم مشغول

وقفتان عروضيَّتان:

قال أبوعبدالرحمن: هذه القصيدة على البحر الخفيف، ووزنه:

فاعلاتن - مُسْتَفْعِ لن - فاعلاتن

فأما الوقفة الأولى فهي عن الفرق بين (مستفعلن) و(مستفعِ لن)(6)، وهما على وزن واحد، ولم أجد عند العروضيِّين إلا دعوى أن (مستفعِ لن) تتألف من سببين خفيفين بينهما وتد مفروق!!.

قال أبوعبدالرحمن:

ثم ماذا؟.. ليس عندهم إلا ترتيب أحكام الطيِّ، وهو حذف الحرف الساكن أوَّلَ التفعيلة، وهذا يجوز في (مستفعلن)، ولا يجوز في (مستفع لن)، وهو من آثار السَّبر على التقنين للزحافات والعلل (التي هي ضرورات غنائية) دون فهم لأسرارها، والذي أحقِّقه أن الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى رتَّب أوزان شعر العرب على الألحان الغنائية التي سمعها، وحاول القدر المستطاع للتقنين لها في كتابه المفقود عن أصول النغم؛ فلجأ إلى العروض ليضبط الوزن، وأثبت الكلمات حسب مقتضى لغة العرب، ولاحظ التغيُّر عن النطق العربي في الغناء؛ فقنَّن للزحاف والعلل.. ومن تجربتي للغناء العامي - وهو متَّسق في كل غناء - أنني أتقنتُ اللحن الغنائي لقول ابن لعبون:

سقى صوب الحيا مزنٍ تَهامَى

على قبرٍ بتلعات الحجازِ

ثم وجدتُ أشعاراً على هذا الوزن ذات ألحان أخرى، ولكنها لا تخضع للحن قصيدة ابن لعبون إلا بعسر شديد لا تظهر فيه روعة لحنه؛ فتأملت ذلك، فوجدتُ من الألحان ما هو في أجزائه ذو وقفات تارة يكون الوقوف على نهاية التفعيلة، وتارة على بعضها؛ فصح لي بيقين كالشمس أن (مستفعِ لن) ذات لحن يقف عند عين (مستفعِ) المحرَّكة المكسورة بسكتٍ خفيف.

وأما الوقفة الثانية فعن اصطلاح (التشعيث)، وهو حذف الحرف الأول أو الثاني من الوتد المجموع، وهو (علا) من (فاعلاتن)؛ فتصبح (فاعاتن)، ويحولونها إلى (مفعولن)، وقد جاء في أعاريض هذه القصيدة أضرب مشعَّثة مثل (معزول) و(مشغول) و(مفلول).

قال أبوعبدالرحمن: هذا يُخلُّ باللحن الموحَّد للقصيدة، ومعنى ذلك أن مثل (معزول) قابلة للحن آخر غير لحن القصيدة، وهذا ليس من سنَّة العرب، وأما من الناحية الفنية الغنائية فيجوز أن يكون في القصيدة لحن ذو كوبليه يتحقَّق به استقرار الأُلْفة للسمع، ثم يكون الانتقال إلى لحن آخر ذي كوبليه مستقر كما في قصيدة (الأطلال) لإبراهيم ناجي؛ لهذا فالتشعيث خلل في الوزن واللحن معاً جاء به فحول الشعراء اتباعاً للتقطيع العروضي البصري، ونظام الوزن وكَميَّته في الذاكرة، وهو أيضاً عندي بيقين كالشمس يتغير في الغناء، ويرتدُّ إلى فاعلاتن؛ فَيُغَنَّى بفتح العين في (معزول) وفتح الشين في (مشغول) وفتح الفاء في (مفلول)، ومن غنَّى بشعره، أو غنى له به ذو علم بوحدة اللحن قلَّتْ أو عُدمت الضرورات في شعره، وقد يتصرَّف بوجهٍ لغوي صحيح كتحويل (مشغول) إلى (شَغول) بفتح الشين وضم الغين المعجمتين بدلالة صيغة (فَعُول) بفتح الفاء المعجمة وضم العين المهملة؛ فهذه الصيغة تأتي بمعنى (مفعول) كما في قوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ}(22) سورة يس(7).. وفي البيت الأخير (عنكمْ بكمْ مشغول)؛ فمن ناحية الغزل الأرضي فلا يستقيم إلا هكذا (لي فؤاد عنكم به مشغول)، وضمير (به) يعود إلى مُقدَّر هو (غيركم) التي هي بديل (عنكم)؛ إذْ كيف يكون فؤاده مشغولاً بهم ومشغولاً عنهم في آن واحد؟!.. وأما في الرمز الصوفي فيجوز (عنكم بكم مشغول)؛ بدلالة السياق؛ لأنه مشتاق إليهم؛ لظنِّه أن النار التي يطلبها موجودة عندهم (وهي أوَّلُ الوجد من عِرفان المشاهدة).. وهو في نفس الأمر مشغول بغيرهم؛ وذلك هو النار نفسها.. أوَ لم يقلْ:

وجفونٌ قد أقرحَتْها منَ الدمعِ

(م) حثيثاً إلى لقاكمْ سيولُ

لم يزل حافز من الشوق يحدوني

(م م) إليكمْ والحادثات تطولُ

واعتذاريْ ذنب فهل عند من (م م)

يعلم عذري في ترك عذري قبولُ(8)

جئتُ كي أصطلي فهل لي إلى (م م)

ناركم هذه الغداةَ سبيلُ

فأجابت شواهدُ الحالِ عنهمْ

كلُّ حد من دونها مفلول (9)

لا تروقنَّكَ الرياض الأنيقاتُ

(م) فمن دونها رُبىً ودُحول (10)

كم أتاها قوم على غِرَّة (م م)

منها وراموا أمراً فعزَّ الوصول

قال أبوعبدالرحمن: إلى هذا الحد فالقصيدة قابلة للغزل الأرضي بعد ملاحظة التعديل الذي أسلفته، وهو (عنكم به مشغول)، والمنتقى في شريعة الغزل - عند العذريين قديماً، والرومانسيين حديثاً - أنه لا مطمع للمتغزِّلين عن حُرْقة؛ لأن (ليلى) تحجب حديثها وكل ما هو مُغْرٍ ظاهراً إلا عن محادثة (قيسها)؛ ولهذا لا يطمع المتغزِّلون إلا بنسيبٍ عن بُعدٍ، ولا يقدرون على دعوى أدنى وِصال كالمحادثة العاطفية.. وبعد ذلك يرغمنا الشهرزوري على الرموز الصوفية.. قال عن القوم الحُلول:

وقفوا شاخصين حتى إذا ما

لاح للوصل غُرَّةٌ وحُجولُ

وبدت رايةُ الوفا بيد الوجدِ

(م) ونادى أهل الحقائق جُولوا

أين مَن كان يدَّعينا فهذا (م)

اليومُ فيه صِبْغُ الدعاوَى يحولُ (11)

حَمَلوا حَمْلةَ الفحول ولا

(م م) يُصرعُ يوم اللقاء إلا الفحول

بذلوا أنفساً سَخَتْ حين شَحَّتْ

بوصالٍ واستُصْغِر المبذولُ

ثم غابوا من بعد ما اقتحموا

بين أمواجها وجاءت سيولُ

قذفتهم إلى الرسوم فكلٌّ

دَمُهُ في طُلولها مطلولُ

نارنا هذه تضيئ لمن يسري

(م م) بليلٍ لكنها لا تُنيلُ

منتهى الحظِّ ما تزوَّد منها

(م) اللحظ والمدركون ذاك قليلُ

قال أبوعبدالرحمن: قصيدة الشهرزوري هذه بريئة من الحلول والاتحاد، ومن التصريح بالتجلِّي الذي يدَّعيه ذوو الجذب، وغاية ما فيها ذِكر بعض أحوال أهل المعرفة (الحقائق) من الصوفية من وِجدان يكاد يجرُّ إلى دعوى تجلِّي الرب سبحانه، ولكنه عدل عن ذلك بمعرفة لَدُنيَّة قاصرة عن الكشف ورفع الحُجُب، والمحذور شرعاً أمران: أولهما - وهو أسهلهما - ادِّعاء حال تنال قليلاً من المعرفة بالرب سبحانه، وهذه الأحوال لم تحصل لأفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم، بل معرفتهم شرعية برهانية، وَوِجدانهم من تجربتهم الشرعية؛ لمعرفتهم بمشاعرهم ألطاف ربهم بهم، ورضاهم بقضائه؛ لما يعلمونه من النعيم تجاه الرضا والتفويض، ولما ينالونه من أُنْس بالله وتصبيره لهم، ولما يعلمونه من تطهير الرب سبحانه لعبده إذا أحبَّه بما أصاب منه في نفس أو مال أو ولد، ويشهدون مظاهر الكمال المطلق لربهم سبحانه في الأنفس والآفاق؛ لأن الله أحسن كل شيئ خَلَقه، ومن معاني الإحسان الإتقان؛ فتُفْعم قلوبُهم بالحمد مدحاً وشكراً وهم بعقلٍ سَوِيٍّ دون هلوسة أو أحوال.. وثانيهما: سوء الأدب مع الرب سبحانه، فرموز هذه الأحوال لشيئ مما هو عندهم علم لدُنِّي أوصافٌ وأسماء لا تليق بالله سبحانه مثل ليلى، وضمير الجمع في (نارهم)، والغرام، والهوى، وأن المرام رياض أنيقات فلا تروقنَّك (؟!!)، وأتاها قوم على غِرة بكسر الغين المعجمة، وهناك حُجول وغُرة بضم الغين المعجمة، ووَصلٌ، وشحَّت بوصال؛ فهل هذا يليق بالله سبحانه أو بمعرفته؟.. ولم يخبرنا عن مصير المُريد المتطفل، ولكنه ذكر إخوانه من أهل الأحوال؛ فإذا هم: جريح، ومكبَّل وقتيل، صرعتهم قبل المذاق الشَّمول.. إلخ، وليست والله هذه صفات للمؤمنين أهل البرهان والعقل السوي.. وانتهى الشهرزوري إلى عِرْفانٍ يقصر دون الدعاوى العريضة لأهل الكشف والجذب (ودعك من أهل الاتحاد والحلول)؛ فقال:

جاءها من عرفتَ يبغي اقتباساً

وله البسطُ والمُنى والسُّول

فتعالتْ عن المنال وعزَّتْ

عن دُنوٍ إليه وهو رسولُ (12)

فوقفنا كما عهدتَ حيارَى

كلُّ عزمٍ من دونها مخذولُ(13)

ندفع الوقت بالرجاء وناهيك

(م) بقلب غذاؤه التعليلُ(14)

كلما ذاق كأسَ يأسٍ مرير

جاء كأس من الرجا معسولُ (15)

فإذا سوَّلت له النفس أمراً

حِيْدَ عنه وقيل صبر جميلُ

هذه حالنا وما وصل العلمُ

(م) إليه وكل حال تحولُ

قال أبوعبدالرحمن: ونعود إلى بردة البوصيري عند قوله:

فإن من جودك الدنيا وضرَّتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

قال الحمزاوي: (هو تعليل لما تقدم: أي لأن من بعض جودك الدنيا وكذا ضرتها وهي الآخرة، والمراد نعيمها، ومن بعض علومك علم اللوح والقلم.. قيل: (اللوح المحفوظ درة بيضاء طولها ما بين السماء والأرض، وعرضها ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت وقلبه نور).. فإن قلت: قولك (إن من بعض علومه علم اللوح والقلم) مشكل؛ لأن الله تعالى كتب في اللوح علم الكائنات التي من جملتها الخمس التي استأثر الله تعالى بعلمها كما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: (خمسٌ لا يعلمهن إلا الله تعالى)؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المخلوقين لا يعلم هذه الخمس؛ فكيف يتضمنها بعض علومه؛ فيتعين أن يكون المراد باللوح والقلم في كلامه جنسهما من الألواح والأقلام التي تكتب فيها الخلائق علومهم؟: فالجواب: (لا نسلِّم أن هذه الخمس مما كتب في اللوح المحفوظ؛ إذ لو كانت مما كتب فيه لاطلع عليه بعض الملائكة المقربين عليهم الصلاة والسلام ممن شأنه أن يطَّلع على اللوح المحفوظ؛ ولئن سُلِّم أنها فيه، وأن الله لم يطلع عليها أحداً وإن كانت فيه. فالمعنى: وبعض علومك علم اللوح والقلم الذي يطلع عليه المخلوقات اهـ قسطلاني).. قلت: والتحقيق أنه عليه الصلاة والسلام لم يفارق الدنيا حتى أعلمه الله بسائر المغيبات التي يليق علمها بالبشر، ومن جملتها هذه الخمس؛ فقوله: (فالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من المخلوقين لا يعلم هذه الخمس) محمول على أول أمره صلى الله عليه وسلم كما نبَّه على ذلك أئمة التحقيق، وقد نبهنا في أغلب كتبنا نقلاً عن محققي الأئمة على أن اللوح والقلم والعرش والكرسي والسموات الأولى تفويض الأمر في حقيقتها إلى العليم الخبير؛ لعدم نص صريح في تعيينها فنؤمن بثبوتها ووجودها، ونفوِّض معرفة حقيقتها إلى الله تعالى.. وفي أبي السعود: (والمعنى كيف يضيق جاهك يا رسول الله بمثل هذا الفقير الحقير الذي قد خلت يداه من نفس العمل والتطهير مع أن الدنيا وما فيها والآخرة وما احتوت عليه من العل(16) مما أعد للمتقين هي بعض من جودك العميم، وشيئ من عميم كرمك يا كريم، وعلمك قد أحاط باستحقاقي الشفاعة؛ فإن الصدقة والإحسان يتفاوت موقعهما بحسب شدة الفقر وقوة الحرمان؛ فإن المضطر المسكين أولى بإحسان المحسنين، وكيف لا تعلم حالي وتعرف فقري وقلة نوالي وعلم اللوح والقلم - بمعنى ما هو مسطور في اللوح مما جرى به القلم - بعض مما جرى فيه علمك وأحاطت به معرفتك؛ وإنما خص هذين الوصفين؛ بالذكر لأن إغاثة المضطر المستكين، وإعانة البائس المسكين موقوفة على هذين الوصفين، فإن المانع من الإغاثة والإعانة: إما البخل، وإما عدم العلم بحال المستحق؛ فإذا زال المانع وحصل المقتضي وجب صدور الفعل).. ثم قال: (ولا يبعد أنه سبحانه وتعالى قد أطلع حبيبه صلى الله عليه وسلم على جميع ما هو مسطور في اللوح وقد جرى القلم به، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم قد تحلى بحلى المعارف الإلهية من الصفات الربانية والأحوال القدسية مما لم يحط به اللوح ولم يجر عليه قلم ولا يعلم به مَلَك، ولا يخطر بقلب أحد من بني آدم؛ فيكون علم اللوح والقلم بعضاً من علومه صلى الله عليه وسلم اهـ).. ولا يخفاك ما سبق غير مرة أنه لولاه لما وجد لوح ولا قلم في الحديث القدسي: (لولاك لما خلقت الأفلاك) لا سيما وقد خلق اللوح والقلم وسائر الأفلاك من نوره صلى الله عليه وسلم؛ فيكون علم اللوح والقلم من ضمن علومه صلى الله عليه وسلم) (17).

قال أبوعبدالرحمن: هذا والله هو الكفر البواح، وهو إشراك عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم المخلوق المربوب مع ربه سبحانه في العلم، وهذا الكفر بيِّن للعالم والعامي، ولكنني أحتسب الأجر بزيادة البيان من وقفات:

الوقفة الأولى:

التنبيه على عِظَم مصيبة البوصيري - والله أعلم بسرائر عباده إن كان قد تاب - عند ربه تجاه هذا الكفر، وما أعظم مصيبة من روَّج لهذا الكفر بمثل هذا التدليس في هذا الشرح الذي قرأناه، وما أعظم مصيبة من حبَّب الناس إلى هذه البردة الكافرة بمختارات نادرة ولم يبين مخازيها.

والوقفة الثانية:

الجواد الكريم بخير الدنيا والآخرة هو ربنا سبحانه وتعالى، وجَعْلُ ذلك من جوده صلى الله عليه وسلم إشراكٌ لعبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم مع ربه سبحانه وتعالى في التدبير، بل جعل البوصيري التدبير لمحمد صلى الله عليه وسلم استقلالاً، ولو ملك بأبي هو وأمي ذلك (وهو لا يملك ذلك) ما دخل أحد من عصاة المؤمنين النار، وهو بالمؤمنين رؤوف رحيم، والنصوص متواترة بمن يدخلون النار وهم ليسوا أهلها.. أي غير خالدين فيها؛ ولما دخل أبوطالب النار.

والوقفة الثالثة:

أن هذا الكفر جاء بوجه صفيق عديم الحياء؛ فكذَّب ربَّه جهاراً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم بشير ونذير من عند ربه بوعد ربه وإيعاده، ولا يملك عليه الصلاة والسلام في الآخرة وعداً ولا إيعاداً؛ لأن الله مالك يوم الدين، ولأن الله قال لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(128-129)سورة آل عمران؛ فجاء كُفر البردة بأن من جود محمد صلى الله عليه وسلم الآخرة (ضَرَّة الدنيا)، والنصوص من القرآن الكريم أن العذاب والمغفرة بمشيئة الله، وليس من جود محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يزعم صاحب البردة الكذاب البراءة من غلو النصارى؛ فأي غُلُّوٍّ فوق هذا؟.

والوقفة الرابعة:

جعلت البردة الكافرة عِلْمَ محمد صلى الله عليه وسلم فوق علمِ الله؛ لأن علم الله المغيب في اللوح المحفوظ، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فما في اللوح من علومه وليس هو جميع علومه؟!.

والوقفة الخامسة:

زعم أن المغيبات الخمس التي من ضمنها علم قيام الساعة ليست في اللوح المحفوظ؛ لأنها لو كانت فيه لعلمها الملائكة؛ فافترى على ربه بلا برهان فِريَتَيْن: أولاهما أن لله غيباً محفوظاً في غير اللوح المحفوظ، وأخراهما أن الملائكة عليهم السلام يعلمون ما في اللوح.. وَأَصْفِقُ هذا الوجه الرقيع بأصدق الحديث مثل قوله سبحانه: {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} (سورة هود - 123)؛ فملائكة الرحمن في السموات وينزلون إلى الأرض، ومع هذا فلله فيهنَّ غيب لا يعلمه أحد منهم، وقوله سبحانه: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}(سورة النحل - 66).

والوقفة السادسة:

التحقيق عند الحمزاوي أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يفارق الدنيا حتى أعلمه ربُّه بسائر المغيبات التي يليق علمها بالبشر؛ فبأي برهان ادَّعى ذلك، وما الضابط للغيب الذي يليق علمه بالبشر؟.. إن الذي يليق بالبشر ما أطلعهم الله عليه في الدنيا والآخرة.. ثم ماذا سيقول هذا الحمزاوي عن عموم قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (سورة الجن - 26).

والوقفة السابعة:

أن وصفه للوح من الأكاذيب التي لا خطام لها ولا زمام.

والوقفة الثامنة: حَمْلُه كلام البوصيري - احتمالاً نَقَلَه، وحقَّقه غيره من الكفر الصريح - أن اللوح من جنس ما تكتب فيه الخلائق علومها كلام متهافت لا يناسب معهود (ال) في اللوح، ولا المقابلة لملكه صلى الله عليه وسلم الجود بنعيم الدنيا والآخرة.

والوقفة التاسعة:

تذرَّع بتفويض الأمر عن حقيقة اللوح - وهو قد وصفه وصفاً كاذباً -، وليس محل النزاع معرفة كنه اللوح؛ وإنما محل النزاع بالدعوى الكاذبة على عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه يعلم ما فيه من غيب. والوقفة العاشرة: التساؤل بمثل (كيف يضيق جاه رسول الله صلى الله عليه وسلم..) بدعة شنيعة؛ لأنه أحرص الخلق على الشفاعة، ولكنه مقيَّد بإذن ربه ورضاه للمشفوع له؛ فالمشروع الابتهال إلى الله، والدعاء لمحمد صلى الله عليه وسلم بعد كل أذان بأن يؤتيه ربه الوسيلة والفضيلة؛ لننال شفاعته.

والوقفة الحادية عشرة:

لم يستحِ هذا الحمزاوي من إيراد الحديث الموضوع: (لولاك ما خلقت الأفلاك)(18)، وهو افتراءٌ على الله؛ لأنه عندهم حديث قدسي، ومتنه تكذيب لله تعالى؛ إذْ خلقها آيات لأولي الألباب كما في آخر سورة آل عمران؛ فإن اختلاف الليل والنهار بالله ثم بحركة الكواكب.. وتعليم أولادنا محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بابتداء قراءة سيرته العطرة من كُتب الصِّحاح الحديثية، ومن المتواتر في كتب التاريخ.. وبتعزيره وتوقيره عليه الصلاة والسلام، وباجتناب كل موضوع وحكاية ومنام ترفع منزلته عن بشريَّتِه، وتمت المداخلة نفع الله بها، وأستغفر الله لي ولكم.

* * *

(1) قال أبوعبدالرحمن: الشمول الخمر إذا عَرَّضها للشمال فبردت، فتكون طيبة للندماء، وهذه من الإشارات إلى أن القوم ليسوا صرعى من حب ليلى الأرضية، ولكن الذي أضاء لهم من المعرفة الربانية - وهي قسط من المشاهدة- أذهلهم؛ فكانوا كمن صرعتهم الشَّمول.. والمذاق ما يتجلى من شيئ من المعاينة!.

(2) قال أبوعبدالرحمن: (درس) في هذا المعنى وفي غيره ترد لازمة ومتعدية.. والرسم ما لَصَقَت آثاره بالأرض؛ فقوله: (رسم فهو رسم) قصور بلاغي؛ لأن الوجد درس آثاراً؛ فصارت رسماً.. والمراد أنهم لم يصلوا إلى المشاهدة العرفانية الربانية، فهم في رسم؛ فالذي جعله رسماً عدمُ وصولِهم لا وَجْدُهم.

(3) قال أبوعبدالرحمن: وضعت ميماً واحدة علامة للتدوير مع أن الزائد في الشطر الأول حرفان؛ لأنهم من أجل الوزن يفتحون واو الشكوى بلا مدِّ هكذا (وَ).

(4) قال أبوعبدالرحمن: الهاء في (عنه) مضمومة بإشباعٍ يزيد معه سكون هكذا (عنهوْ)، وانظر وقفتيَّ العروضيَّتين.

(5) قال أبوعبدالرحمن: هاء (عليه) غير مُشْبعة، بل تُنطق مكسورةً بلا مد.

(6) قال أبوعبدالرحمن: سألني أخي الدكتور فهد العرابي الحارثي في حدود عام 1388هـ عن الفرق بين (مستفعلن) و(مستفع لن) فلم أفته بشيئ؛ لأنه لا علم لي يومها بأسرار الزحافات والعلل، والعلل اللازمة لا تخل بوزن ولا غناء.

(7) قال أبوعبدالرحمن: ديوان الأدب لأبي إسحاق الفارابي 1- 85.

(8) قال أبوعبدالرحمن: لو اعتذرت منكم في الحلول عندكم لكان ذلك ذنباً؛ لأنني ذو وَجْدٍ شديد نحو أهل هذه النار؛ فهذا هو عذري في عدم الاعتذار منكم.

(9) انظر ما سبق عن وقفتيَّ العروضيَّتَين.

(10) قال أبوعبدالرحمن: يكني بالدحول عن الحيرة والضياع؛ لأن الدحل ضيِّق المدخل، ثم يتَّسع جداً مع ظلمة؛ فيعجز الداخل فيه عن الخروج منه.

(11) قال أبوعبدالرحمن: علامة التدوير ههنا وإن كان الشطر الأول تاماً؛ لأن (ال) من (اليوم) قائمة مقام المدِّ للذال في (هذا).

(12) قال أبوعبدالرحمن: الرسول صاحب الحال أرسله علمه اللدني؛ ابتغاء علم أشمل.

(13) قال أبوعبدالرحمن: انظر وقفتيَّ العروضيَّتَين.

(14) قال أبوعبدالرحمن: ناهيك بمعنى كافيك، وأصلها اسم فاعل مفسَّر بالحسن في القول تكريماً عن النهي الحقيقي.. هكذا يقولون، والمحقَّق عندي أنها مثل ألفاظ ذكرها الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى في كتابه (الصاحبي) ص68-69 - مكتبة المعارف - بيروت، ومما ذكره يا هيئ مالك، وهي عند العامة اليوم (يا هُمَّلالي) عُرِف معناها، وجُهل اشتقاقها وأصلها.. والمعنى هنا: أكفيك عن ذلك الرجاء بمثالٍ هو قلبه الذي غذاؤه التعليل.

(15) قال أبوعبدالرحمن: الشطر الأول كناية عن اليأس من الوصول إلى حقيقة المعرفة التي مرَّ سياقها.

(16) قال أبوعبدالرحمن: هكذا في الأصل المطبوع، ولعل الصواب (النعيم) بدلالة السياق. (17) النفحات الشاذلية في شرح البردة البوصيرية 3-544-546.

(18) انظر الأسرار الموضوعة للقاري ص288 برقم 385، وسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني رحمهما الله تعالى 1-450-451 برقم 282.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد