Al Jazirah NewsPaper Tuesday  30/06/2009 G Issue 13424
الثلاثاء 07 رجب 1430   العدد  13424
هكذا كان والدي
أحمد عبدالعزيز الخلف

 

يكمن الشعور بالحاجة إلى شيء ما عند فقدانه كما جاء في أبلغ تعبير عن هذا الشعور.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، فكيف إذا كان الفقيد أعز الناس لديك؟

لا اختلاف في حقيقة الموت، وأنه قدر لا مهرب منه { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} وأنه مصير كل حي {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وأنه نهاية رحلة الحياة للبشر كما قال الشاعر:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

يوماً على آلة حدباء محمول

غير أنني ما زلت أشعر بأن ظلاً محبباً ما انفك يلازمني، وأن خيالاً وقوراً ما زال يشيعني في كل زمان ومكان، إنه ظل والدي وخياله - رحمه الله - بوجهه البشوش، وابتسامته الهادئة، وحلمه وأناته، وبهاء طلعته، ووقاره ومهابته..

والدي.. ذلك الرجل الذي ظل يخفق في صدره قلب كله رحمة على مدى ما يناهز تسعين عاماً، تجلت في رحمته بنا، وفي حبه لنا، وصبره على فعالنا، والتماس الأعذار (لشقاوتنا) وزلاتنا، وامتد ذلك ليتجلى بصورة أعمق في لطفه وظرفه وحبه لأحفاده من أبنائنا وبناتنا.

وتجلّت رحمته في صور أخرى، في حرصه الدائم على صلة الرحم حتى وإن قطعه رحمه، وكان يردد دائماً: الرحم موصولة بالرحمن.

لقد اطمأن فؤادي منذ وعيت وبما لمست وعرفت من صدق علاقة والدي بالله سبحانه، فقد كان رحمه الله للقرآن حافظاً وتالياً، وعلى الصلوات محافظاً متوالياً، وللآثام والمعاصي مبغضاً وقالياً.

والدي.. سيد قومه وعميدهم كما أرادوا، ومقيل عثراتهم وبه أشادوا، لم يهنأ بطعام لا يشاركه فيه غيره، ولم تكتمل يوماً سعادته إلا بسعادة الآخرين ممن حوله، لقد كان نصير الفقراء والمساكين، يعيش معهم كأنه منهم، ويعيشون معه كأنهم منه، دون أن ترى شماله ما تنفق يمينه، هذا ما شهد به خصومه على قلتهم قبل محبيه وقد ملؤوا الآفاق.

والدي.. ذلك العصامي الذي بنى لنفسه مجداً، وصنع منه صدقته ومثابرته مثالاً، فاستطاع بالصبر والعزم أن يكون ممن يشار إليهم بالبنان بين قومه وأهله. وكان شعاره: (نفس عصام سودت عصاما). وتستوقفني محطات عدة في سيرة والدي، لعلي ألخصها في نقاط:

لم أشعر يوماً بأن والدي تهاون في حق الله، ولاسيما الصلاة، فقد كان يحرص على التأكد من أدائنا صلاة الجماعة في المسجد، إيماناً بأن الصلاة هي أساس الصلاح (إن صلحت صلح العمل كله، وإن فسدت فسد العمل كله).

كانت لوالدي نظرة خاصة في الصديق والصداقة، حيث تجلت عملياً في جماعة من أصدقائه الذين كان يحرص على لقائهم يومياً في مزرعته منذ وقت الضحى حتى ما بعد صلاة الظهر، وتناول طعام الغداء معهم ثم العودة، فضلاً عن تفقد أحوالهم المعيشية والعائلية في كل حين. كان - رحمه الله - يخصص جلسة يومية تقريباً من بعد صلاة العصر حتى صلاة المغرب لجماعة من كبار السن من أهل حيناً وحارتنا، يتبادل معهم الحديث في شؤون الدين والدنيا، ويتعرف على أحوالهم فيقدم لهم ما استطاع من مشورة ورأي ومعونة ومساعدة.

كان والدي يخصص لنا نحن أبناءه جلسة يومية تبدأ عقب صلاة المغرب حتى موعد صلاة العشاء، يناقشنا فيها ويسامرنا ويسأل عن أحوالنا حتى إذا ما أدينا صلاة العشاء واطمأن لذلك فارقنا إلى حجرته الخاصة.

لقد قرأت كثيراً عن القدوة الحسنة فوجدتها في والدي خلقاً وسيرة وعطاء ومسيرة، كانت حياته -رحمه الله- لوحة مشرقة تحمل على الاعتزاز والفخر، وكانت سريرته -رحمه الله- أنقى من الثوب الأبيض. فقد علمنا الحب في الله والبذل في سبيل الله، والعمل من أجل مرضاة الله، علمنا أن القليل مع القليل يصبح كثيراً، وأن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.

رحم الله والدي رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وغفر لنا وله رحمة تليق بعفوه، وجنة هي بعض منِّه وفضله، وغفراناً هو بعض عدله.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد