تظل انطباعات الإنسان عن أخيه الإنسان واحدة حيّاً أو ميتاً، بيد أن الاختلاف يكمن في انقطاع وسائل التواصل والاتصال بعد الممات. والرجاء، أو الوفاء هما المحكان الرئيسيان لتلك الوشائج، ومن هنا تختفي عوامل الإثارة، أو التجاذبات بعد الوفاة. والإنسان أيّاً كانت حالته له حرمته وتقديره التي يجب أن يوقف عندها، وقد يكون احترامها في حياته أهم وأعظم، ومع ذلك قلّ للأسف من يعي ذلك ويدركه من الناس.

* من خلال أكثر من نموذج أدبي رثائي نستطيع القول: إن الناس يختلفون في تصنيفهم، ويتباينون في سماتهم، وما نستنتجه من خصال وخلال للأموات نستطيع بكل يُسر وسهولة إسقاطه على الأحياء، بل هي صفاته يوم أن كان حياً يُرزق، وإن كنا بعد الممات نلبسها لبوساً آخر، وللعواطف أثر في ذلك التقدير. والناس وإن جاروا أحياناً شهداء لله في خلقه، ولعلنا هنا نسوق ثلاث فئات صورتهم عواطف المكلومين بهم، أو المعجبين والمحبين.

* الفئة الأولى: كادت أو تكاد تختفي من مسرح الحياة، أو لنقل قلّ الاحتفاء بهم في زمن السلم، أو بمعنى دقيق الاستسلام، وهؤلاء هم القادة الأبطال الأشاوس الذين خاضوا ميادين الوغى، وسقطوا بين أسنة الرماح وصليل السيوف في المعارك، وبقيت صورهم وملاحمهم أساطير يسرح بها خيال المبدعين، في اليقظة والمنام، وقد تتضح الصورة أكثر فأكثر إذا قبسنا من شمائل أحدهم ما تصوره هذه المقطوعة الرائعة في معناها ومبناها:

* الفئة الثانية: طغت عليهم السجايا الأخلاقية الحميدة، وعرفوا بالحمية، والكرم، والنجدة، والمروءة، والوفاء، والسماحة، والعفة، والوقار، وما إلى ذلك من شرف الأحساب، وكرم الأنساب. وقد تكون هذه الفئة من الناس خير من يمثلها (صخر) من خلال مقطوعة (الخنساء)، حين تقول، وقد أمضّها الحزن، وحرمها لذّة الحياة الكريمة الهانئة التي نعمت بها في حماه:

* الفئة الثالثة: شخصيات عرفت بالبر، والتقوى، والورع،والزهد، والعبادة، والإعراض عن ملذات الحياة الفانية وزخرفها، أو بتعبير أوضح الشخصيات الدينية المتنسّكة التي سخّرت جزءاً من حياتها الدنيوية للدفاع عن حوزة الدين الحنيف والذب عنه.

* الفئة الرابعة: لا إلى هنا، ولا إلى هناك، لا وجود لهم يذكر على قيد الحياة، ومن باب أولى أن يلفهم النسيان وتطويهم الأيام، بعد أن التحفهم الثرى، وساروا إلى ما يسير إليه كل كائن حي. إذن، انظر لنفسك ماذا أنت تختارُ؟ ولتتذكر هذا البيت: