Al Jazirah NewsPaper Friday  03/07/2009 G Issue 13427
الجمعة 10 رجب 1430   العدد  13427
هل عاد الدين؟
جان فيرنر ميولر

 

بودابست - إنه لشكل مبتذل من أشكال التباين والتضاد: فالولايات المتحدة متدينة، وأوروبا علمانية. غير أن هذا التعارض النمطي اتخذ اتجاهاً معاكساً في عدد من جوانبه مؤخراً: فلم يلعب الدين أي دور تقريباً أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، في حين احتدمت مناقشات كبرى في مجموعة من البلدان الأوروبية المختلفة، الأمر الذي يشير إلى أن مسائل العقيدة والإيمان الديني عادت من جديد إلى قلب السياسة الأوروبية.

ولنتأمل هنا مسألة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. لقد زعم ساركوزي في العديد من المناسبات أن بلاده تحتاج إلى إعادة النظر في الفصل التقليدي الصارم بين الدولة والدين، أو ما يسمى بالعلمانية. وطبقاً لهذا الرجل الذي تزوج ثلاث مرات وطلق مرتين، والذي يقر بثقافته الكاثوليكية، فلابد وأن تعمل فرنسا على تنمية ما أطلق عليه (العلمانية الإيجابية). وخلافاً للعلمانية السلبية التي تستبعد وتدين وفقاً لساركوزي، فإن العلمانية الإيجابية تدعو إلى الحوار وتعترف بالفوائد الاجتماعية للدين.

في خطابه الذي كان موضعاً للانتقاد الشديد والذي ألقاه في روما في نهاية عام 2007م، اعترف ساركوزي بالجذور المسيحية لفرنسا، (الابنة البكر للكنيسة) طبقاً لتعبيره، كما امتدح الإسلام أثناء زيارته للمملكة العربية السعودية. والآن يريد من الدولة تقديم الدعم للمنظمات الدينية - وهي السياسة المقترحة التي تزعج منتقديه العلمانيين الكثيرين إلى حد كبير.

إن هذا الاستنجاد بالدين - بعد فترة طويلة كان من المُسَلَّم فيها بأن العلمانية من شأنها أن تجعل الدين أقل أهمية على الصعيد السياسي - لا يشكل ظاهرة تقتصر على فرنسا. فقد حاول حزب الشعب الأسباني جاهداً تعبئة الجماهير الكاثوليكية أثناء الحملة الانتخابية في مارس - آذار 2008م. ولقد أيدت الكنيسة حزب الشعب الأسباني ضد رئيس الوزراء خوسيه لويس رودريجيز ثاباتيرو، الذي استثار غضب العديد من المحافظين المتدينين بدفاعه عن زواج المثليين، ومطالبته بتخفيف صرامة قوانين الطلاق وإزالة المواد الدينية الإلزامية من المناهج الدراسية الوطنية. وفي النهاية شعر ثاباتيرو بضرورة إخبار مبعوث الفاتيكان بأن الأساقفة الأسبانيين لابد وأن يكفوا عن التدخل في الانتخابات (التي فاز بها).

وفي إيطاليا تسبب رئيس الوزراء سيلفيو بيرلسكوني في نشوء أزمة دستورية حين حاول التعجيل بتمرير تشريع طارئ لمنع فصل مريض في حالة غيبوبة عن أجهزة دعم الحياة. ولقد ذَكَّرت هذه الحادثة العديد من المراقبين بما حاول الحزب الجمهوري الأميركي القيام به من أجل إظهار (التزامه بدعم الحياة) أثناء ولاية جورج دبليو بوش.

وأخيراً، هناك بريطانيا، التي ربما يُنظَر إليها عادة باعتبارها الدولة الأكثر علمانية في أوروبا الغربية، وبالتالي المرشح الأقل ترجيحاً لعودة الدين إلى السياسة بأي شكل من الأشكال (خارج الجالية المسلمة). فتحت زعامة ديفيد كاميرون، بدأ حزب المحافظين الذي استعاد نشاطه من جديد في الإنصات إلى عدد من المفكرين الذين أطلق عليهم وصف (المحافظين الحُمر)، الذين يحثون الحزب على التخلي عن الثاتشرية وتبني المجتمع المدني، والمجتمع المحلي، والأسرة، والدين، كقوة لدعم السلوك الاجتماعي المسؤول.

نستطيع أن نقول باختصار إن الأمر يشتمل على نمط معين. ولكن المسألة هنا ليست أن الأفراد في البلدان الأوروبية المختلفة أصبحوا أكثر تديناً - فليس هناك ما يدل على ذلك. وقد نجد على الصعيد العالمي أسباباً وجيهة للحديث عما وصفه علماء الاجتماع بنشوء (مجتمعات ما بعد العلمانية)، ولكن أوروبا تظل استثناءً لهذه الظاهرة. وأما يفسر هذه المجادلات العامة المحيطة بالدين فهو أمر آخر، أمر بعيد عن السياسة: ألا وهو المعضلة التي وقعت فيها أحزاب اليمين ويمين الوسط في أوروبا.

لقد تعود العديد من هذه الأحزاب على الدفاع عن راديكالية السوق، أو على الأقل جرعات قوية من التحرير الاقتصادي. ولم تكتف هذه الأحزاب بالتراجع عن مواقفها هذه منذ اندلاع الأزمة المالية، بل لقد حاولت أن تضفي على نفسها صورة أكثر لطفاً وأكثر وعياً على الصعيد الاجتماعي.

هذا لا يعني أن الاستنجاد بالدين ليس أكثر من حيلة انتخابية هازئة. ففي مواجهة الأزمة المالية بصورة خاصة أصبح الدين يُعرَض وكأنه مصدر لما أطلق عليه ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل مشروع (تطعيم الرأسمالية بالأخلاق).

وهي ليست بالفكرة العبثية. فهناك تقليد قديم ومتميز من الفكر الاجتماعي الكاثوليكي. بيد أن التعامل مع هذه التقاليد بجدية سوف يتطلب حدوث تحولات في النظام الرأسمالي أعظم كثيراً مما يتصوره غلاة المؤيدين للديمقراطية المسيحية، بما في ذلك توزيع أعرض اتساعاً للملكية والآليات اللازمة لإشراك العمال في الإدارة. وقد تقطع نظريات المحافظين الحمر شوطاً طويلاً في هذا الاتجاه، ولكن ليس من المؤكد بعد ما إذا كانت هذه النظريات قد تترجم إلى ممارسة عملية في أي وقت.

في اللحظة الحالية يستسلم اليمين الأوروبي لإغراء البحث عن (هيئة جديدة) من خلال الاستنجاد الانتقائي بالدين - ثم ينتظر ليرى ما إذا كان ذلك قد يصلح للاستخدام كإستراتيجية انتخابية. ولكن يتعين على أنصار اليمين أن يتذكروا أن الدخول في صراع ثقافي الآن هو في الحقيقة لعب صريح بالنار: فقد يكون من المستطاع تحويل المشاعر الدينية إلى أداة مفيدة لبعض الوقت؛ إلا أن السيطرة على مثل هذه المشاعر من الأعلى بشكل دائم أمر شبه مستحيل.

جان فيرنر ميولر أستاذ السياسة المساعد بجامعة برينستون.
خاص «الجزيرة»







 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد