Al Jazirah NewsPaper Sunday  05/07/2009 G Issue 13429
الأحد 12 رجب 1430   العدد  13429
شيء من خصال أمير «البندقية والسنَّة»
بقلم : د. زيد بن عبد المحسن آل حسين

 

ظننت تدوين صفحات عن صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز أمراً ممكناً في وقت قياسي، لا يفصله كثيراً عن المناسبة التي أوحت به إثر تعيينه نائباً ثانياً لمجلس الوزراء؛ فكان من شأني مسابقة الزمن في رصد ما يكتب عن سموه من مواقف ومشاهد، وآراء، ومشاعر، ما كاد غيثها يتوقف حتى يعود منهمراً من جديد، فطالت المدة، وتكاد المناسبة تطوى، وأنا أتيه في رصد ما يكتب، ولمّ شتات ما كان مبعثراً لدي عن شخصه الكريم.

ومن هنا، كان داعي محبة الرجل، وحقه علي كواحد من أبناء وطنه الذين خصّهم بفيض أخوته ومودته، باعثاً إياي على التعجيل بمقدمة أو ملخص عمَّا أنا بصدد جمعه وتصنيفه، فكم من يسير جاء في وقته فأبلى حسناً، ووابل في غير زمنه فلم يغن شيئاً.

وحتى لا أخطئ في حق ما أدون، وأتبع أثر ابن خلدون حين صبّ في مقدمته لباب ما جاء مفصلاً في تاريخه، حتى أغنت عنه وفُصلت، وغدا الملحق أصلاً، والسند متناً، سأكتفي بنقاط يسيرة استوقتني في حياة هذا الرجل الذي أحسن أحد إخوته حين وصفه بأنه (فلتة آل سعود)، ثم أطلب من القراء الكرام إمهالي حتى يبلغ ما أصنف تمامه، ليس من باب إمهال المفلسين أو إنظار المعسرين، ولكن تقديراً لموقف من يتصدون للحديث عن قامة شامخة، وشخص ليس عادياً في كل شؤونه.

ومع أن كاتباً جاء متأخراً بعد تسطير آلاف الكلمات عن سمو الأمير، حظه في رواية ما يخفى، أو ابتداع ما لم يسبق إليه ضئيل، إلا أنني سألتمس العذر لنفسي بأن الحق لا يسقط بالتقادم، والمعروف لا يزيد مع التكرار إلا اتضاء واشتعالاً. أما بعض ما استوقف كاتب السطور، فيما قرأ وروي له وعايش، بحق أميرنا، فمنه ما يلي:

حديث المجالس

* صدر أمر خادم الحرمين الشريفين بتعيين سمو الأمير نايف نائباً ثانياً في إطار مشاريع التطوير والتحديث التي يقودها -حفظه الله- بمؤازرة ولي عهده الأمين الأمير سلطان، الذي كان البشر له عنواناً والسخاء له سجية، حتى غدا مضرب المثل، أسبغ الله على سموه لباس الصحة والعافية.

ومن أجل استمرار قائدنا في بناء دولة المؤسسات الحديثة والعصرية بمشاعر قلب صادق وفي، وبطموح شعب زرع عبدالله بن عبد العزيز في نفوسهم الطمأنينة ووضع المستقبل في أيديهم؛ كان قرار القائد العظيم ذاك وهو صاحب الرؤية الثاقبة، منسجماً مع تطلعات شعبه، ولامس الشغاف من قلوبهم فظل شكره على خطوته حديث السرّ والعلانية في منتدياتهم.

فالمواطنون السعداء بالخطوة كانوا في وعي متقدم من استيعاب حقائق القوة لدى الذات الوطنية التي يتبوأ سنامها رجل مثل نايف، أوفى بعهده وأنجز وعده، فكانت مناسبة تعيينه حديث الخلان، وأنس المتحدثين، ومناسبة لاستعراض سيرته وشمائله الحميدة، واستقراء تاريخه عبر الذاكرة، والوثائق، والشهادات.

ومن أطرف ذلك ما وقع لي مع الزميل الشيخ أحمد المزيد الذي كنت وإياه في بهجة بالخطوة، ما دفعنا إلى تقليب الوثائق التي عند كلينا، ففوجئ الشيخ المزيد وأنا أطلعه على بعض مراسلات جدي وشيخ أبي زيد بن محمد بن حسين مع الملك عبدالعزيز -رحمهما الله-، بأن الوثائق كتبت بخط عمه أحمد الذي كان بين كتاب الملك المؤسس، ثم بدأ كل منا يستذكر ما كان سلفه يروونه عن الأمير نايف الذي كان مناسبة الحديث، والكتابة عنه هي ما دفعني إلى نفض الغبار عن تلك الوريقات عن جدي، القليلة في أحرفها، الغالية عندي في معناها ومغزاها.

ومع أن التعيين الموفق مضى عليه ما يكفي لتجاوزه إلى أحداث أخرى محلية أو عالمية، إلا أن مكانته في نفوس الناس جعلته لم يزل في صدارة مجالسهم، إعجاباً بحكمة القائد خادم الحرمين الشريفين الذي اختاره، ودعاءً وشداً من أزر المعيّن الذي كان (محل إجماع وبهجة واعتزاز) مواطنيه وأمته.

مهمة قبل العشرين

* حين يشاء الله أن يصطفي أحداً من خلقه لشيء ما، فإنه يجعل لذلك سبباً، لكنه سبحانه قد يجود على عبادٍ له بما يحتار البشر فيه، حتى يدفعهم ذلك إلى التعجب وربما الغبطة والحسد. ومن بين ما خص به إلهنا صاحب السيرة الطيبة الأمير نايف، هو أن بلغ نضجه ورشده في سنٍ مبكرة، على نحو فريد، بهر الكثيرين. أحد الأدلة على ذلك تفويض الملك سعود - رحمه الله- له في تلقي البيعة نيابة عنه في عام 1373هـ، وهو دون العشرين!

وما من محب أو كاره إلا ويدرك مغزى إسناد مهمة كهذه إلى فتى في مثل سن سموه آنذاك، وهو ما يذكرنا بدلالة تكليف نبينا عليه الصلاة والسلام لأسامة بن زيد -رضي الله عنه- بقيادة جيش جرار، فيه وجوه المهاجرين والأنصار. وهي دلالة لم يسع أي دارس لحياة الصحابي الجليل تجاهلها أو نكرانها.

وفي البيان الذي حمل تكليف الأمير نايف بالمهمة، يقول التكليف الموجه إلى فضيلة الشيخ حمد بن مزيد ( التاريخ: 7 - 3 - 1373هـ الرقم 6172... حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حمد بن مزيد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فإن إمام المسلمين صاحب الجلالة سعود بن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، قد استخلف أخاه سمو الأمير نايف أمير الرياض، لقبول البيعة نيابة عن جلالته، وإن شاء الله سيكون سموه بمجلسه بالديرة الساعة الثالثة من صباح غد الأحد، لقبول البيعة بحضور صاحب الفضيلة الشيخ الجليل محمد بن إبراهيم المفتي الأكبر. أحببت إخباركم بذلك. والسلام عليكم. رئيس الديوان. (التوقيع)).

عقله أكبر من سنه!

* يروي الزميل الشيخ أحمد المزيد عن والده -رحمه الله- أن رفاقه المشايخ في الرياض سعود بن رشود وعبد الرحمن بن عودان والشيخ محمد البواردي وغيرهم من المشايخ، كانوا ينظرون إلى الأمير نايف عندما كان أميراً للرياض بإعجاب نادر، ليس لأنه من الأسرة المالكة، ولا لأنه صاحب خلق رفيع وحسب، ولكن كما يرددون لأن (عقله أكبر من سنه)، وسجل هذا الرجل وواقعه الحالي هو امتداد لماض مشرق؛ حيث تواترت روايات المشايخ والتجار وغيرهم على أنه ينفق بقصد تقديم المساعدات للمحتاجين، وإكرام الناس ومساعدة ذوي القربى.

وإذا كان هذا الأمر في ذلك الوقت المبكر ربما احتاج إلى برهان، فإن الواقع وسجل هذا الرجل في موقعه القيادي عبر عقود يُتخطف فيها الناس من حولنا، يكفيان دليلاً على أنه متعه الله بالصحة والعافية، رزق عقلاً راجحاً، وقلباً حانياً على الكبير والصغير، ونظرة ثاقبة، تمكّن بها من تجنيب وطنه وأمته الكثير من المؤامرات والأخطار المحدقة.

التلميذ النجيب

* بين أثمن الشهادات، إن لم تكن أثمنها على الإطلاق، شهادة المربي والشيخ لتلميذه، حتى إن علماء الجرح والتعديل، وكتاب السير يجعلونها في صدر ما يسطرون عن الأئمة والأعلام. وفي حق الأمير الجليل نتذكر ما وثق عن الشيخ عبد الله الخياط -رحمه الله- أنه كان يلقبه ب (الطالب النجيب)، هو وأخوه سلمان، حفظهما الله.

إلا أن قول إمام الحرم -رحمه الله- في تلميذه لم يكن نهاية المطاف، بل كان البداية، فمما هو شائع بين العلماء وطلبتهم في وقت مبكر أن سموه (شيخ أمير)، لإحاطته بكثير من دقائق المسائل الشرعية، التي قلّ أن يهتم بها غير المختصين، على أن ذلك ما زاده إلا ارتباطاً بالعلماء وإجلالاً لذوي المقامات الرفيعة منهم، حتى كان يزورهم في بيوتهم، إلا أن ذلك لم يحجب قوة في شخصيته مع دماثة خلق، في التعامل معهم.

وإلى ساعتنا هذه يشهد طلبة العلم بأن الأمير نايف من أشد الناس صراحة في الدفاع عن قضايا أمته ودينه، ووقوفه ضد التوجهات المتطرفة من الاتجاهات كافة. منتهجاً مبدأ الوسطية الذي تقوم عليها هذه البلاد.

وكان المشايخ القضاة منذ عقود يقدّرون له حزمه في تنفيذ الأحكام الشرعية، والتعاون مع القضاء في حلّ عظام الأمور، بل كان كما يروون لا يحيل إبان إمارته الرياض إلى القضاء إلاّ ما لا يمكن حلّه بالحكمة والمال. الأمر الذي خفف كثيراً عن القضاة، الذين كان سنداً وعوناً بارزاً لهم.

الإنصات في عالمه

* إذا كان الإنصات والاستماع من أبرز سمات الشخصية القيادية، فإن الشخص الذي نتحدث عنه مدرسة في هذا الباب، على نحوٍ فريد، قلّ أن يماثله فيه أحد. الأمير نايف فاجأني مرات عدة بهذه الخصلة، فبينما كنت أتوقع منه تعجيلي في إنهاء مرامي ولو تلميحاً، أجده منصتاً، كأن ما لديه من مشاغل وهموم ومشكلات، ولاّه ظهرياً.

ولن أنسى مشهد سموه ذات يوم، وهو يصغي إلى قروي قدم من مكان بعيد بكل اهتمام وإنصات، حتى فرغ من حديثه الطويل، رغم أن ذلك المواطن العزيز جاء نهاية يوم مضن من العمل، بدا على الأمير في ختامه الإرهاق، إلا أن ذلك لم يؤثر في خصلته في الإنصات التي اصطفاه بها طابع الشمائل.

ومن المؤكد أن تلك الخصلة الحميدة جداً، لها التأثير البالغ فيما نشهده من نجاعة أقوال سموه في مسائل وقضايا تحار منها الدول، مثل قضايا الإرهاب، والجريمة، وحقوق الإنسان، والمرأة، ونحوها. فمن اشتدّ إنصاته، لا بد أن يبلغ استيعابه للأمور درجة عالية الدقة، ومن ثم يكون ساعة التعبير عما بداخله مستمسكاً بزمام ما يخوض فيه، ومقنعاً فيما يدلي به ويجادل.

ولو أن كلّ من حمل أمانة المسؤولية، مهما كان حجمها، فتح بابه واستمع إلى من ولاه الله أمرهم، كما يفعل هذا الرجل النبيل لصلح الكثير.

ساعة الحلم الطويلة!

* يبلغ الحلم بأميركم حداً يجعلني أحياناً، تحدثني نفسي معه بأن الحقيقة غائبة عنه. إلا أنه بكلمات قليلة يفاجئك بما هو أبعد وأخطر مما تستكثر حلمه عليه. غير أن نهجه في الحلم مع القوة، والتجاوز مع ثبوت التقصير كان خلقاً رفيعاً لا يتنازل عنه.

فحين زرته شاكياً إليه واقعاً تعاني منه فئة من المجتمع، ظننته غير مدرك لما يجري، ولا متابعاً لأدق ما نحن له مستنكرون، ولكنه ظل يحيطني بالتفاصيل، ويكشف لي الغطاء عن الخبايا، ثم ختم بأن الزبد سيذهب، والبقاء للذي هو خير. فغادرته حفياً بعلمه بما ظننته بعيداً عنه، ومسروراً برؤيته المتزنة للواقع، متعجباً من حلمه.

النظر البعيد

* شرفني سموه الكريم، بمهمة إعداد كتاب بمناسبة احتفال (المئوية) عن وزارة الداخلية، يعرف بأحد أهم وزاراتنا الكبرى، ويرصد إنجازاتها عبر التاريخ، فأذهلني بعد نظره، وأشفقت عليه لكثرة ما يحيط به من أهوال المسؤوليات، وأنا أتتبع فروع الوزارة وأبحث عن المعلومات التي كان هو مرجعها الأول والذي أغناني عمن سواه.

وكان من أصدق الشواهد في تلك المهمة على بعد نظره ثلاثة أمور؛ أولها: إدراكه أن بعض من كُلّف بتزويدي بالمعلومات في الوزارة لم يوفق للقيام بالمهمة، رغم أن العمل ليس محسوباً لأحد بقدر ما هو لوطن يحتفل بعامه المائة أمام العالم أجمع، لكني حين عرضت على الأمير معاناتي بعد إنجاز العمل، أفاض علي بما أذهلني من نبله وتوجيهه.

وثانيها: في حديثه عن (الرؤية المستقبلية للداخلية) في الكتاب، فكان في ذلك الوقت الذي سبق أحداث 11 سبتمبر، يتحدث عن ضرورة التعاون الدولي في مكافحة الجريمة والإرهاب، ويعلق ازدهار الأمن عربياً بالتعاون الصادق بين دوله، ويخشى من جرائم التقنية الحديثة، كأنه يدري بما نحن فيه الآن!

أما ثالثها: فهو دقته في تعديل العبارة وهو يراجع الكتاب، فرغم قلة الذي عدّل، إلا أن تدخله يذهب إلى أبعد من الكلام إلى لبّ ما بين السطور. خصوصاً حينما يتصل الأمر بوقائع تاريخية أو اجتماعية، تحتاج إلى ميزان أدق من الشعرة.

عظمته في قوته الناعمة

* في كل أنحاء العالم يفاخر وزراء الداخلية بما لديهم من القوة الخشنة من عتاد ورجال، وهذا أمر مهم، إلا أن الأمير نايف، وإن كان وجهه المشرق بهياً لمحبيه والمقربين منه، إلا أنه فجأة عمّت أرجاء الوطن محياه، عندما ابتلي الوطن بوباء الإرهاب، فكانت الداخلية الطبيب الذي يداوي بكل مهنية وإخلاص. ولم نعلم وطناً عولجت فيه قضايا الإرهاب بهذا المزج بين الحزم، والرفق، وإعلاء نهج (لا تزر وازرة وزر أخرى) كما أعلى أميرنا. حتى غدت تجربة المملكة في دحر الإرهاب بالقوة الناعمة إلى جانب الخشنة مثلاً للآخرين، فرسم ما فاخرنا به الأمم، حتى أوصت تلك الأمم في محافلها الدولية بالاستفادة من التجربة الأمنية الفكرية السعودية في مواجهة الإرهاب عبر المناصحة وإعادة التأهيل، وهو أمر وقفت عليه بنفسي أثناء مناقشتنا للمراجعة الدورية الشاملة عن حقوق الإنسان في المملكة مؤخراً في جنيف.

ولا يمكن فصل هذا المحور عن إطلاق الأمير -حفظه الله- لجائزته للسنة النبوية التي سخرها لترسيخ الوسطية والاعتدال، وقمع فتنة الإرهاب، بالمعين النبوي الذي ينير بالوحي ظلمات الجهالة. عبر دراسات وبحوث ومسابقات أحيت في نفوس الناس مزيداً من التمسك بالسنة. فكان بذلك أول وزير داخلية يمسك البندقية بيد والسنة بأخرى.

إن مقالة واحدة أعلم أنها مهما طالت لن تكفي لرصد حتى العناوين المهمة في حياة الأمير نايف، وهذا ما دفعني إلى الجنوح لخيار التصنيف ابتداءً بدلاً من كتابة هكذا مقال، ولكني أطمئن النبلاء في وطننا الغالي، بأنه رغم أن الآخرين ودّوا أن أميركم ألين قناة مما عليه، ليخترقوا بلادنا كما يشاؤون، إلا أننا وجدناهم في كل ساحة دولية، وفي كل ما قرأناه من صحف العالم، يقرون بقوته، وتنساب على ألسنتهم فضائل شهد بها الأعداء، فالحمد لله الذي أكرمنا به وبإخوته، وعسى أن تظل البلاد بعطرهم زاكية، وأرضنا بأياديهم عامرة. ولنا لقاء في تفاصيل أوفى بإذن الله.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد