Al Jazirah NewsPaper Friday  17/07/2009 G Issue 13441
الجمعة 24 رجب 1430   العدد  13441
بين الكينونة والتملك
د. عبد المحسن بن عبد الله التويجري

 

كثيراً منا ملم بمعالم الحياة ويمكن أنه يفهم الأعمق منها، وآخر قد لا يحيط بشيء منها بما يتجاوز أمور معيشته، والثالث يفهم ويتفاعل بردّ الفعل لكل ما تلقي به الحياة عليه، وغالباً ما يتم ذلك من خلال الفهم الخاطئ للفعل، وآخر وآخر الخ..،

ومن تعامل بذلك فمكانه يتراجع ويتردى فلا وقت عنده للخيال الذي يصنع الأشياء، وذلك من دائرة الحاجة التي تقود إلى التصور فالمحاولة، فهو قليل التأمل وقد يكون خاطره معطلاً فلا يدفع بالأفكار بقدر حرصه على الروتين.

وجميع هذه الأنواع تعيش الحياة ولا أحد منهم ينكر حقائق ثابتة الموت مثلاً أو العقيدة وان تباينت درجة الإيمان، والكل يكدح ويسعى وتدفعهم أسباب محددة لما يسعون من أجله فيحسن البعض وسائل الكدح والتعامل مع الأسباب التي بها يحقق الهدف، وبعض آخر تلف حياته التعاسة فحصيلته أسوأ النتائج، ومن أجل أن يعيش الجميع وهم تحت حافز حب التملك من خلال ما يكدح من أجله أو يسعى إليه، فهو يسعى ليملك ويتملك الأشياء بصرف النظر عن نزعة السمو وهي من طموحات الإنسان، فقد يتجاوز في حب الذات لتملك أكثر ومبالغ فيه، والتملك عموماً من وظائف الحياة فلا عيش بدونه.

وقد تعترض الطريق كثير من الأشياء التي تستدعي الذوبان في كينونته، وهو الأسمى فهي إشارة من العقل تؤكد مقدار الوعي والحس الثقافي بخلفية حضارية يتصاعد تطورها.

وفيما بين التملك والكينونة يتضح الأمر من خلال المثال الآتي؛ فأثناء زيارة حديقة جميلة يفترض ان يكون التعامل مع كل جميل فيها الحس برغبة الكينونة، فهو الأجدى والمتميز قياساً برغبة التملك، فغريب نستهجنه أن نرى بعض من يزور الحديقة قد راوده إحساس أو خاطر بتملكها بدلاً من الكينونة فيها فيستمتع هو وغيره بما فيها من جمال.

والكينونة قد نراها مع زهرة جميلة بعطرها الفواح حيث يسارع البعض إلى اقتلاعها، وآخر يمضي وقتاً مع كينونتها فيسرَ بها ليأتي غيره فيسير على نفس النهج، وهنا لابد للموضوع أن يوضح الفارق بين التملك والكينونة، فالأمر مع التملك منطلق يبالغ في النزعة الذاتية فالشعار في هذه الحالة أن تزيد من ملكية كل شيء بدلاً من التفاعل مع الكينونة في الشيء نفسه لتسود على شهوة التملك، وحين تمتلك شيئاً قد ينتهي الأمر بامتلاكه بينما ان تتعامل مع الشيء من واقع كينونته والذوبان فيه، فالعائد من ذلك ان تحد من نزعات الذات وما ترغب فيه، وبالحرص على الكينونة تكون العلاقة مع الشيء علاقة بعمر أطول وأجمل.

ومن المعطيات التي بها يتضح الأمر ان الفارق بين التملك والكينونة في الشيء ليس فارقاً بين غرب وشرق، ولكنه في الغالب يتمثل في الفارق بين تجمع محوره الناس وآخر محوره الأساسي الأشياء، ومن يعرف نفسه وما تنطوي عليه من رغبات وحب للتملك، ومن خلال المعرفة القائمة على التحليل لكل الأبعاد سيدرك أهمية الشيء له ولغيره، فبالكينونة في الشيء يتميز ما نفعل اليس من الإيمان ان أتحب لأخيك ما تحب لنفسك.

وتحت تأثير هذا المنهاج سيكون الانحياز إلى التعامل مع الأشياء من خلال كينونتها وليس ملكيتها علما ان جانب التملك يأخذنا إلى منحى يسيطر فيه سلطان التملك لنكون نحن في دائرة المملوك فبدلاً من أن نملكه صار هو من يملك، ولابد ان ندفع الثمن وكذلك ما تقضي به الحالة، فمن يحرص على التملك المبالغ فيه فإن هذا الحرص يتطلب صيانته وحفظه فتحل المشقة من أجله، وبمعنى آخر ان ما نملكه يتوجب معه كثيراً من الجهد وفي ذلك بعض من الشقاء.

ويتمخض المشهد لنجد اننا نملك ما نحن ملك له، أما التوجه بخبرة الكينونة فإنه يحررنا من مثل هذا ويتسع معه مقدار الاستمتاع والفائدة وفاعلية العلاقة بيننا وبين الأشياء.

إن هذا طريق يحقق شراكة مع كل الناس فيما نشتهي امتلاكه أو نحرص عليه، بينما يكون التعامل مع الأشياء بحس الكينونة مختلفاً في اثره ونتائجه، وشاهد آخر على الفارق وأثره نجده في قصة مجنون ليلى، فقد انتهى عصره وحتى عصرنا هذا ونحن نعرف لوعته وقوة الدفع بغرامه لليلى، ولو أن كل منهما تملك الآخر لوجدنا أن ما يقال عنهما يقال بشكل مغاير، فتتحول قصة حبهما والعشق بينهما إلى شيء طابعه روتيني مثل أي علاقة، وهذا لا يعني ان نكون في مثل هذه العلاقة بتأثير ما يروى عن مجنون ليلى، فما يروى يخلو من تفاصيل لابد منها فربما ان القصد فيها رمز لحالة كانت وليست قانونا يطبق في كل حالة.

ولا أحد يستطيع أن يقول إن الكينونة أفضل من التملك أو العكس بالنسبة للجميع حيث إن طبيعتهما من طبيعة النفس والتكوين الذي يعيش به الإنسان حياته، وإن لعبت الثقافة الخاصة جداً دوراً يحدد الأفضل وفق ما تستطيعه طبيعة كل شخص.

ولا شك أن الإفراط في حب الذات وبالتالي مجاراة الرغبة في التملك بحدود تتجاوز بها عن الوظيفة إلى الفوضى له انعكاسات ضارة على ذات الإنسان وقد لا نجد ذلك في التعامل مع الأشياء بمنهاج الكينونة، ومن هذا قد نستنتج مدى ما نسمو به مع (منهاج الكينونة) في الشيء ونحن نتعامل مع الأشياء من واقع كينونتها وليس تملكها، فالذات يصعب ان نفطمها عما تعودت عليه ولكنها تستجيب للترويض والمنهاج الأفضل.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد