Al Jazirah NewsPaper Friday  17/07/2009 G Issue 13441
الجمعة 24 رجب 1430   العدد  13441
نوازع
فعل المتاح
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

إن كانت السياسة (فن الممكن) فالدبلوماسية (فعل المتاح)، وهذا موسم انتقال الدبلوماسيين من دولة إلى أخرى أو من دولة إلى الوطن أو من الوطن إلى خارجه، هذه الحركة الجميلة تتيح للمنتمين إلى هذه الخدمة النبيلة فرصة تمثيل بلده تمثيلا مستحقا في أكثر من موقع، وفي أكثر من بيئة ثقافية.

والدبلوماسي عندما يحزم حقائبه، باحثاً عن وسيلة نقل لإيصالها إلى منتهاها، يفكر فيما مضى وفيما هو قادم، فهو خلال بضع سنوات قضاها في بلد ما شرب من زلال ثقافتها، وربما في أضيق الحدود من كدر تلك الثقافة وستأبى تلك الثقافة إلا أن تضيف شيئا إلى عقله الظاهر والباطن، وربما يترجم ذلك في واقع حاله بدرجات متفاوتة تختلف بين الأفراد باختلاف المدارك العقلية والحكمة والمستوى الثقافي، ونمط التفكير.

والدبلوماسي عندما يرحل يخلف وراءه أثراً جميلاً في الغالب لدى زملائه الباقين، وكذا عند أقرانه في الدولة المضيفة، كما يورث كماً لا بأس به من اللبنات التي بناها والتي سيضيف إليها زميله القادم لبنة أخرى، وبمقدار كفاءة القائم على العمل يكون البناء أرسى قاعدة، وأجود عملاً، وأزهى منظراً. سيذهب وفي ذاكرته مواقف جادة، وأخرى ظريفة، ومواقف مفرحة، وربما أخرى قليلة محزنة، سيذهب وقد قرأ عن تاريخ البلاد، وربما شاهد بعض الآثار بها، وعاش في كنفها فطاب له منها ما طاب، وغض الطرف عما لا يراه صواب.

ومن الدبلوماسيين من أشغل جزءاً من وقته لنيل شهادة علمية، فكان له ما أراد، فذهب وفي جعبته شيئا من العلم الموثق، وربما الكثير من العلم غير الموثق.

بعضا من الدبلوماسيين يؤثر العمل بصمت وتظهر آثار عمله في النتائج، سالكاً طرقاً كثيرة متاحة، وممتطيا صهوات جياد عديدة، فإن كانت الدبلوماسية (فعل المتاح) فلابد له من البحث عما هو متاح، والنفاذ منه لخدمة بلده، وبقدر كمال الاستفادة من المتاح، يكون النجاح، والنفاذ يحتاج إلى أدوات كثيرة، منها حسن الخلق، ولطف المعشر، والمنطق في القول، ومعرفة ثقافة البلد، وفوق ذلك القدرات الذاتية للفرد، وقدرته على جذب الناس إليه، واطمئنانهم إلى نهجه، مع سلوك قويم يحلي به خصاله، وبهذا كله أو جله تنشأ الثقة فيكون الدبلوماسي عونا لبلده لا عونا عليها.

استمتاع الدبلوماسي بالخدمة سر نجاحه، ومن مهامه تقديم العون لرعايا بلده في مكان عمله، والرعايا مشارب وأصناف، فمنهم السوي ومنهم غير السوي، والحكيم العاقل، والساذج الجاهل، والمستثمر الناجح، والمستثمر المتعثر، والسائح عابر السبيل، والمرتمي في أحضان سواه، التابع لهواه، وواجب الدبلوماسي خدمة هؤلاء جميعا خدمة جليلة حميدة، ومن هنا يبرز فعل المتاح لخدمة هذه الأصناف المتباينة المتاح من القوانين في البلد المضيف، والقوانين في الوطن، والمال المتاح، وأدوات التعامل.

هذه الخدمة الدبلوماسية تحتاج إلى المهارة باستخدام الحزم تارة والتسامح تارة أخرى، والاستعانة بالبلد المضيف في أضيق الحدود.

إن السياحة تعتبر الجاذب الأول لمغادرة المرء وطنه لمدة قصيرة، وأثناء تلك الرحلة القصيرة قد يتعرض إلى بعض الأمور التي تتطلب المساعدة، وهنا يمكن فعل المتاح إذا ما كان الدبلوماسي سبق له وأن أرسى قواعد علاقة طيبة متينة مع دوائر القرار التي يحتاج لها السائح في الغالب، فيعمل المتاح بأقصى قدر ممكن فيكون دبلوماسيا ناجحاً.

والتواصل الثقافي والإعلامي، أحد علامات النجاح للدبلوماسي، فالجامعات حاضنات لثلة من المثقفين وطالبي العلم، ومن خلالهم يمكن التعريف بالوطن، والمساعدة في إزالة اللبس الذي قد يعتري البعض من خلال الصور النمطية غير الجيدة لمجتمع معين لأن الصور النمطية تبقى أسيرة العقل الباطن حتى يمكن إزالتها، والدبلوماسي إحدى أدوات تلك الإزالة، إذا ما تغير حال المجتمع، وكان الدبلوماسي مثالا لذلك التغير، ومن ثم أداة من أدوات الإزالة.

وفعل المتاح يقع أيضا على القائم على السفارة فهو القادر بحنكته أن يسبر أغوار زملائه لمعرفة قدراتهم ومن ثم توظيفها التوظيف الأمثل، كما أن التعامل المنصف العادل يدفع إلى الاستفادة من الممكن لدى الدبلوماسي الفرد، ففعل المتاح بما هو متاح هو بيت القصيد وبه يكون النجاح وهو سر الأسرار، فلا نجاح دون استغلال ما هو متاح في البلد المضيف، ولا نجاح إلا باستغلال ما هو متاح لدى الدبلوماسي حسب قدرته، ومن لا يرغب فعل المتاح فيا ليته أراح واستراح.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد