مما لا يختلف فيه اثنان أن هيبة المعلم أصبحت في مهب الريح ووصلت إلى درجة من الانحدار تنذر بمستقبل يحمل في طياته الكثير من الخوف، تحول كبير في هيبة المعلم، فبعد أن كانت هيبة المعلم مَعلماً بارزاً في خريطة العملية التربوية ها هي اليوم تتحول إلى أسوأ أحوالها، وهذا بلا شك ناتج عن مجموعة من المسببات يمكن من خلال رصدها ودراستها إعادة الهيبة للمعلم بشكل يتناغم مع روح التربية الحديثة التي يسعى إليها التربويون، ونحن نبحث عن هذه المسببات نؤكّد على قضية مهمة وهي أن ما كان يمارسه بعض المعلمين من أساليب زرعت الهيبة السلبية في قلوب الطلاب في فترات سابقة إنما كانت أساليب قمعية هي أقرب إلى الوحشية منها إلى التربية وكرد فعل لهذا النموذج التربوي القمعي خرجت الدعوات تلو الدعوات لإصلاح هذا الخلل فجاء الإصلاح نقلة إلى الطرف الآخر من الخط التربوي الموغل في الدعوة إلى تحجيم دور المعلم وتعظيم شأن الطالب مما عالج الخلل بخلل أشد منه فضاعت هيبة المعلم ومعه هيبة المدرسة، وكان الأولى بالقائمين على قطاع التربية معالجة هذا الإشكال بشكل يتناغم مع متطلبات التربية الحديثة ويقدّم حلولاً متوازنة تضمن حق الطالب في معاملته بشكل يتناسب مع شخصيته ويضمن له حقوقه ويحفظ للمعلم هيبته التي تمكّنه من أداء رسالته وتحقيق أهدافه، وعودة على ذكر الأسباب التي أدت إلى ضياع هيبة المعلم نذكر أن من هذه الأسباب ما يعود إلى المعلم ذاته ومنها ما يعود إلى النظام التعليمي ومنها ما يعود إلى المجتمع بمؤسساته وبخاصة المؤسسات الإعلامية:
أولاً: الأسباب المرتبطة بالمعلم ذاته:
1 - ضعف التأهيل المهني للمعلمين وخاصة فيما يتعلّق بتنمية قدراته على التعامل مع الآخرين.
2 - انخفاض مستوى المعلم العلمي وعدم تمكّنه من مادته العلمية.
3 - استهتار بعض المعلمين بمهنتهم وتهاونهم في أداء مسؤولياتهم.
4 - إسقاط المعلم لجميع الحواجز بينه وبين طلابه مما جرأهم عليه وقلّل من قدره عندهم.
5 - غياب الحوافز، فالمعلم المتميّز والمعلم الضعيف سواء في الدرجة والراتب والعلاوة، بل قد يكون المتميّز في درجة أقل وهذا بلا شك سيؤدي إلى وأد الإبداع والتميّز وسيخلق من المعلم إنساناً سلبياً همه فقط الراتب في آخر الشهر بغض النظر عن الإنتاجية والمُخرج التربوي الذي قدّمه.
6 - غياب القدوة في شخصية المعلم، ومن المعلوم أن فاقد الشيء لا يعطيه.
ثانياً: الأسباب المتعلقة بالنظام التعليمي:
1 - اللوائح والأنظمة الصادرة من وزارة التربية والتعليم والتي ساهمت بشكل كبير على تجرؤ الطالب على معلمه، والتي ساهمت وبشكل واضح في انتشار ثقافة المنع داخل المدارس (ممنوع الضرب، ممنوع العقاب، ممنوع الطرد من الفصل...) إلخ.
2 - نظام الامتحانات الذي سهَّل للطالب النجاح بأقل جهد يبذله وبالتالي فهو يشعر بعدم حاجته إلى المعلم.
3 - الإحباط الذي يعاني منه المعلم نتيجة الضغط النفسي والبدني الذي تمارسه عليه وزارة التربية والتعليم.
4 - تجريد المعلم من كل المقومات التي يمكن أن تسهم في صناعة هيبته.
ثالثاً: الأسباب المتعلقة بالمجتمع:
1 - المقالات الصحفية والحوارات الإعلامية التي تناولت قضية المعلم والطالب والتي ركّزت بشكل متجاوز للحد على حق الطالب وأهملت حق المعلم وساهمت في التقليل من هيبة المعلم.
2 - التوجيهات الصادرة من أولياء الأمور لأبنائهم والتي ساهمت في نشر ثقافة التحدي والعناد مع المعلم والمدرسة.
3 - الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التي أبرزت المعلم كمصدر للتندر وجعلته مثاراً للسخرية، وساهمت في كراهية الطالب للمدرسة والمعلم والكتاب وزرعت في نفس الطلاب اتجاهاً عدوانياً تجاه المعلم والمدير والمدرسة.
4 - الخلل التربوي الذي يعاني منه بعض الطلاب والمتمثّل في التفلّت من القيم والأخلاق الإسلامية الداعية إلى احترام الكبير وتوقيره وخاصة من يكون له فضل على الطالب.
5 - الواسطة والمحسوبية التي يستعين بها الطالب على مواجهة كل قضية يمكن أن تسجّل ضده في الوزارة ناتجة عن تصرف لا أخلاقي يصدر منه.
كل هذه الأسباب وغيرها ساهمت في وجود جيل من الطلاب المتمردين على النظام، وأفرزت شريحة من المعلمين المحبطين نفسياً اليائسين من الإصلاح مما أثّر على العملية التربوية والتعليمية برمتها ورسم لها مستقبلاً غامضاً يصعب التنبؤ بما سيؤول إليه، ورغم صعوبة الوضع وحجم المشكلة إلا أن الإصلاح إذا أريد له أن يكون سيكون بإذن الله بشرط توفر إرادة صادقة تتبناها القيادات العليا بوزارة التربية والتعليم بمساندة من جميع القطاعات الحكومية والأهلية وبخاصة وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، ومن المؤكد أن هيبة المعلم التي ندعو لعودتها لا تمثّل عودة الفلكة واللي الأحمر والضرب المفتوح وأكل اللحم وإبقاء العظم وإنما ندعو إلى هيبة تسهم في الرقي بالتربية وتحقق أداء تربوياً متميزاً يحفظ كرامة الطالب ويمكّنه من الاستفادة من معلمه وقد يتطلب الأمر شيئاً من العقاب البدني وهو أمر محمود إذا ضُبط بضوابط واضحة وطبّق تطبيقاً صارماً بلا محسوبية ولا محاباة، نحتاج إلى إعداد مهني وعلمي للمعلم ومراعاة لقدراته وطاقته ونفسيته والرفع من ثقته بنفسه وإشعاره بحجم وعظم مسئوليته ومراعاته في جدوله الدراسي والمهام التي توكل إليه أثناء اليوم الدراسي وسن قوانين تحقق له الحماية والأمان، ونحتاج إلى تطويره بشكل مستمر علمياً ومهنياً بشكل يدفعه نحو مزيد من العطاء، ونحتاج إلى نظام حوافز يميز بين المعلم الجاد والمعلم المستهتر، ونحتاج إلى إعلام يصحح من نظرة المجتمع إلى المعلم ويبرز الدور المؤثّر له تربوياً وتعليمياً، ونحتاج إلى تغيير نظرة ولي الأمر إلى المعلم وأنه على مستوى من المسؤولية وأهل للثقة، وأخيراً نتمنى أن يكون للمعلم حصانة مشابهة لحصانة رجل الأمن ولا نقصد بذلك كبار العسكريين من الضباط ومن في مستواهم، بل نتحدث عن أصغر رتبة في السلك العسكري وهم من لا تتجاوز شهاداتهم المرحلة الابتدائية ولهم هيبة عجيبة في نفوس الآخرين هذه الهيبة صنعها النظام وحماها وضبط استخدامها بما يحقق الغرض منها ولا يسيء للغير، بل يحفظ حقهم فيما لو حصل خطأ ضدهم، هذه الهيبة لم تنشأ من ممارسة رجل الأمن للضرب والعقاب البدني للمواطن، بل نشأت من خلال عقوبات مقننة يعلم من تسوّل له نفسه انتهاك حصانة هذا الجندي بأنه سيواجهها، هذا يعني أننا نستطيع أن نضع في نظامنا التعليمي ما يحمي المعلم ويرفع من هيبته في نفوس الطلاب ونجعل له حصانة خاصة تمكنه من أداء رسالته بشكل يحقق الأهداف المرجوة، ويردعه في نفس الوقت عن الإساءة للطلاب، ونضمن من خلاله أداءً تربوياً وتعليمياً متميزاً نقطف مخرجاته شباباً نافعاً لدينه ووطنه.
Imis1234@hotmail.com