إن الزمان بليله ونهاره، وشهوره وأعوامه.. وتقلُّبِه مِن وَصفٍ إلى وَصفٍ وتحوُّلٍ مِن حال إلى حالٍ هو آية من آيات الله تبارك.. آية تجعل ذوِي البصائر النيِّرَة والعقول النافذة في نَظَر وتفكُّر واعتبارٍ وتدبُّر في عظمةِ الباري وسَعَة سُلطانه ونُفوذِ مَشيئَتِه وعمومِ عِلمه وقدرته وشمول مُلكِه، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ).
|
في هَذا التقلُّبِ وذلك التحوُّل بِنظامٍ دقيقٍ دلالة تسوقُنا إلى شُكر الله جلّ وعلا على آلائِه وحَمدِه على نعمائه، (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)..
|
ومع ذلك كله فإن كثيراً من الناس لا يزيدهم تعاقب الليل والنهار، وتتابع الشهور والأعوام إلا بعداً وإعراضاً عن الله.. غرَّهم الإمهال..التسويف والأمل..
|
إن اشتداد الحر هذه الأيام من جملة الآيات الكونية التي يخوف الله تعالى بها العباد ويخطئ كثيرٌ من الناس عندما ينسبون شدة الحر أو البرد للطبيعة الجوية ويقول: إن تأثيراً لها في خلق الله، والطبيعة هي خلق من خلق الله تعالى جعلها مواقيت للناس، ليعلموا عدد السنين والحساب، (هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقّ يُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، (إِنَّ فِى اخْتِلافِ الليْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِى السَّمَواتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ)..
|
وهنا سؤال مهم من أين يأتي هذا الحر؟ إنه سؤال مهم ربما خفي جوابه على كثيرٍ من المسلمين !! اقرأ هذا الحديث كي تعرف الجواب.. روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير)) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم)) وإذا كان هذا الحر الشديد الذي يعيقك أخي المسلم عن أشياء كثيرة إنما هو نفس أُذن لجهنم أن تتنفس، فكيف بجهنم نفسها وقد ذكر الله عنها ما ذكر كقوله تعالى: (إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ) وقال تعالى (إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)..
|
ونحن أيها الإخوة حين نهرب من هذا الحر الدنيوي فعلينا أن نفكر بعقولنا.. فمن الغباء أن يهرب الإنسان من الأخف إلى الأشد.. وألا نكون كقوم قال الله تعالى عنهم: (وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)..
|
إذاً فاشتداد الحر في هذه الحياة إنما هو من نَفَس النار، من شدة حرها، يخوف الله تعالى به عباده، ويذكر به من يتذكر ليتعظوا وينزجروا عما هم فيه من غفلة وإعراض عن الله تعالى..
|
ولذلك نراه يختلف من سنة إلى أخرى، ومن عام إلى آخر، وكل ذلك بقدر بعد العباد عن الله أو قربهم منه سبحانه، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مّنَ السَّمَاء وَالأرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) وقال تعالى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً)..
|
وما عبد الله عز وجل بمثل الخوف منه، بالخوف من عقابه وناره وغضبه. قال أبو سليمان الدراني رحمه الله: (أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وكل قلب ليس فيه خوف لله فهو قلب خرب)..
|
والعجيب.. أن الناس كلهم حريصون على راحة أنفسهم وأهليهم، يوفرون لهم الوسائل الواقية من الحر والبرد.. وإذا ما اشتدت عليهم سموم الحر رأيناهم يتنقلون إلى المصايف والمنتجعات الباردة في أنحاء العالم!!
|
وليس الخلل هنا في حد ذاته.. بل عظيم الأسى عندما نرى أكثرهم لا يقيم وزناً لنار جهنم.. ولا يعمل على وقاية نفسه ومن تحت يده منها!! والله عز وجل قد خاطب عباده المؤمنين وحذرهم منها بقوله: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)..
|
يقول قتادَة وقد ذَكَر شَرابَ أهل الجنّة: (فهَل لكم بهذا يَدان، أم لَكم عليه صَبرٌ؟! طاعةُ الله أهونُ عليكم يا قوم، فأطيعوا اللهَ ورسوله). وصدَق القائل:
|
نسيتَ لظَى عند ارتِكابِك للهوى |
وأنت توَقَّى حرَّ شَمس الْهواجر |
روي أنّ أبا بكرٍ رضي الله عنه أنه كان يَصوم في الصَّيف ويُفطِر في الشتاء، ووَصّى عمرُ رضي الله وكان معاذُ بن جبل رضي الله عنه يَتَأسَّف عِند موتِه على ما يَفوتُه مِن ظمَأ الهواجِرِ وقِيام لَيلِ الشِّتاء، وكان أَبو الدَّرداء رضي الله عنه يقول: (صُومُوا يومًا شَديدًا حرُّه لحرِّ يوم النّشور، وصَلُّوا ركعَتَين في ظُلمةِ اللّيل لظُلمةِ القُبور).. وَفَّقَ الله الجميعَ للأعمَالِ الصَّالحة والأقوالِ الطيِّبة في سَائرِ الأزمانِ والأوقات..
|
- المدرس بالمعهد العلمي بحائل |
|