Al Jazirah NewsPaper Tuesday  21/07/2009 G Issue 13445
الثلاثاء 28 رجب 1430   العدد  13445
الحبر الاخضر
السهر وصناعة الحياة
د. عثمان بن صالح العامر

 

يقول (...) كان لي صديق أوروبي، يعيش في مدينة، تُغلق محلاتها التجارية الساعة الخامسة عصراً.. ولا يبقى مفتوحاً إلا ما استثني للضرورة.. وإلا قبيل صلاة العشاء بقليل، وهو من الناس الجادين المبرمجين بشكل دقيق، دعوته قبل سنوات لزيارتي في المملكة، وبالفعل في صيف عام مضى زارني في بيتي بجدة، وشاء الله أن يكون وقت وصول رحلته بعد صلاة الفجر مباشرة، استقبلناه في المطار، وفي الطريق إلى مقر سكنه لفت نظره كثرة الناس وزحمة السيارات في الشوارع العامة والطرقات، ووجود بعض المحلات الخدمية مفتوحة، سألني أول ما سألني عندما قابلته عن الغداء.. عن سر هذا النشاط لدى الشباب السعودي، فها هو يستيقظ مبكراً قبل خروج الشمس، ويتحرك إلى مقر عمله قبل السادسة صباحاً، ثم لماذا لم ينعكس هذا النشاط على الحركة التنموية بشكل أقوى فينهض البلد على سواعد أبنائه وتدور عجلة التنمية بسرعة أكثر من إيقاعها الحالي؟.. كان يسأل وهو متعجب من هذه المتناقضات، مستنكراً ضمناً من ظلمي أنا شخصياً للشاب السعودي عندما كنا نتحدث عن واقعهم في جلساتنا هناك.. كانت الصدمة الأولى التي واجهها حين وصل جدة صدمة قوية عليه، والصورة التي رآها في الطريق ما زالت مؤثرة فيه، وأجزم أن في رأسه - نتيجة هذا المشهد - أسئلة عدة تدور، لم يستطع أن يجد لها جواباً!!.. قلت له بعد أن ساق كل ما لديه، من تراهم يملؤون الشوارع في هذا الصباح الباكر هم يتحركون عكس عقارب الساعة، فهم يتجهون في مثل هذا الوقت إلى منازلهم للنوم، بعد أن كانوا طوال الليل في سهر خارج بيوتهم، لا يعودون من أجل أن يخلدوا للراحة في العش الأسري الهادئ إلا بعد الفجر، وينامون حتى العصر، وحالهم في شهر رمضان القادم أشد وأنكى، سأل وبتعجب: ولماذا هم في الخارج حتى هذه الساعة؟، وماذا كانوا يفعلون؟، وهل هذا السهر طوال الليالي أم في هذه الليلة فقط؟.. وما مناسبة هذا السهر الجماعي وبهذه الصورة؟، ولماذا يُسمح لهم بذلك؟.. ومن أين يأكلون ويشربون؟.. وهل كل هؤلاء الذين رأيت لا يُوجد لديهم عمل في الصباح؟.. بصدق أسئلة لا أستطيع أن أجيب عليها، لكنها فعلاً أسئلة محرجة، وفي نفس الوقت تعطي مؤشراً خطيراً على الفوضى في برنامجنا اليومي، وتدلل على غياب إدارة الوقت لدينا وبشكل فظيع، وحكاية أخرى سمعتها من أحد الزملاء، يقول صاحبي: طلبت زوجتي من ابنتنا الصغيرة أن تنام، فرفضت وتمنّعت وبشدة، بحجة أننا في إجازة والناس كلهم يسهرون إلى الفجر، الأمر الذي اضطرني للتدخل وإجبار الصغيرة على الذهاب لغرفتها من أجل النوم، ذهبت وهي كاره وفي طريقها قالت لأمها: أمي.. إذا اتصلت صديقتي فلا تقولي لها إني نائمة.. وإنما خرجت مع أخواتي لأقاربنا!!، مع أن الساعة كانت تقترب من الـ 12 ليلاً، لقد أصبح النوم مبكراً عيباً أمام الصغار بعضهم البعض، والشباب من باب أولى، وفي المقابل صار الاستيقاظ في الصباح دليل الشيخوخة والهرم، رُحّلت كثير من أعمالنا الشخصية إلى بعد العصر حتى الفجر، ومع أنني أعرف أن كلماتي لن تغير ما هو حادث في حياتنا إلا أنني أحببت الإشارة إلى أن من التغيير المطلوب إن نحن أردنا أن نكون صنَّاع حياة أن نلتزم بسنن الله عز وجل في كل سلوك نمارسه وخلق نتحلى به، لقد جعل الله للكون سنناً، وللتاريخ سنناً، وللحضارات سنناً، وللإنسان سنناً، ومتى ما ضربنا بهذه السنن عرض الحائط فلن نكون أهلاً للاستخلاف في الأرض، لن تكون لأمتنا الريادة والسيادة أبداً، ولن تتحقق لنا نحن الأفراد العيشة الهنيئة.. ومن هذه السنن المعلومة عند الجميع أن الليل لباس، سكن، هدوء وراحة واستقرار، والنهار معاش وحركة وطلب للرزق، الليل للنوم والنهار للضرب في الأرض وبُورك لأمتي في بكورها، والبركة هنا لا يمكن قصرها في بركة الرزق فحسب، بل هي بركة شاملة في الوقت والصحة والرزق والنفس وصفاء الفكر وبشارة الوجه وغير ذلك كثير مما تكلم به الأطباء وتحدث عنه أهل الاختصاص والعلماء، لدي قناعة أن أي مخالفة لسنن الله سواء على مستوى الأفراد أو الأمة هي سبب للانحدار ومعول للهدم ولنقرأ التاريخ إن كُنّا لسنا على قناعة بذلك.. أما على ماذا نسهر، وكيف نقتل الوقت، ونقطع الليل إرباً إرباً فحديث ذو شجون وكل منا عنده له طرف وليس من عاش كمن روى وإلى لقاء.. والسلام.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد