Al Jazirah NewsPaper Tuesday  28/07/2009 G Issue 13452
الثلاثاء 06 شعبان 1430   العدد  13452

في الاتجاه الصحيح
ناصر الصالح العمري

 

هذا برنامج في إذاعة الرياض (أدبي لغوي نقدي) مدته ساعة - مساء الإثنين - يقدمه اثنان من الأدباء المثقفين، هما: الأستاذ محمد عابس والدكتور صالح المحمود، يستقبلان فيه - بالتليفون - نتاج المشاركين من المستمعين (أشعاراً ونثوراً) ويتوليانها (فحصاً وغربلة)

من جهة (اللغة والنحو والصرف والبلاغة والعروض) ثم يعقبان على النص - في الحال - بما يظهر لهما فيه من المناقب والمعايب.

أما أنا، فقد أعجبني وأطربني في البرنامج براعةُ الأخوين في ارتجال الكلام وحسن تعاطيه وتصريفه (بالمبادهة) ألفاظاً وجملاً وتراكيب إنشائية بديعة رفيعة، يَزِينها طلاقة اللسان ونصاعة البيان، ووضوح المعاني، وسهالة بلوغها الآذان فالأذهان باللطافة والإسماح، بعيداً عن تثوير النفوس بخوف النقد، والفزع من سطوته.. هذا مع كثرة الفوائد والعوائد العلمية النقدية التي يجنيها المستمعون في (علوم اللغة والأدب).

ومن أحوال هذا المجلس الإذاعي المبارك أنّ مقدميه يحكمان في النصوص المعروضة ب(العدل والنَّصَفَه) مع الذكران والإناث على سواء، فلا تفاضل بين الرجال وربات الحجال إلا بإحكام الكلام وضبط قواعده وأصوله بالموازين الفنية، وبمقدار حظه من النفايس البيانية الإبداعية.

أقول هذا، مع أني لا أتعاهد الاستماع إلى البرنامج، ولا أجلس له (إلاّ لماماً) لأني غالباً ما أكون وقت بثه مشغولاً بأهلي وبخاصة نفسي.

هذا، وإن تمدُّحي صالحاً ومحمداً، لا يقتضي زكاتي لهما بإطلاق، ولا يلزم من إشادتي بهما أني أُجَوِّز سائر ما يقولان في محاكمتها النصوص، وذلك لأنّ ولد آدم كلُّهم معرّض للخطأ في الأقوال والأفعال.

مَنْ ذا الذي ما ساء قطُّ

ومَن له الحسنى فقط

وتأسيساً على ذلك حررت هذه الكليمة، أستدرك على أخويّ الفاضلين شيئاً مما فرَط منهما في الحلقة المذاعة 15-6-1430هـ من الاضطراب والتخليط في بعض قواعد اللغة (نحوها وتصريفها).

ومن ذلك حين خاطبتْهما فتاة اسمها (شموخ) قرأتْ موضوعاً لها عنوانه (سأمضي في درب الصمود) فقام الأخوان إليها يعلقان على ما بدا (لهما) في النَّص من الخلل، وأنا هنا لن أتناول إلاّ (لفظاً واحداً) مما عِيب عليها، وتبيّن لي فيه مآخذ على الناقدين، لأنّ طول التفصيل في ملحوظة واحدة يحول دون الزيادة عليها.

قالت شموخ: - (أَحِس بالدفء ينتابني) نطقتْ همزة (أُحس) مفتوحة هكذا (أَحِس)، وهذا خطأ.. والصواب أن (تضم).. ولقد هبَّ إليها الأستاذ محمد عابس يعضده زميله، فجعل يخطّئها، وكنت أنا أحسبه سيبيَّن لها الخطأ ثم يرفوه بالصواب كالمتبع مع غيرها، لكن صاحبنا (هو نفسه) سقط في تعليقه سقطة أنا أراها أشدّ مما تفوّهت به الفتاة، وذلك أنه أعاد الفعل ب (فتح أوله كما صنعتْ هي) فهو - إذاً - لم يصوّبها وإنما أقرها على الخَمْعَةِ إياها.. ثم يا ليته وقف هنا، وإنما زاد المعضل بأن وسّع الهوة بأغاليط صرفية أخرى، حتى لم يكد يُبْقِي في هذا (الفُعَيل المسكين) القليلة أحْرفُه (مَغْرَزَ إبرة) إلاّ ناله شِقْص (نصيب) من هذا التفنيد (غير الحميد).

ولقد كنت وأنا أُصيخ إلى محمد - لحظتئذٍ - أتمنى أن يكفّ عن طول الفَتِّ واللتّ مع الفُتْيَة في هذه المسيئلة، ويهتبل ما فَضَلَ من زمن البرنامج في إصلاح مفاسدَ لغويةٍ أُخَرَ تفْهَق (تَفيض) بها تلك الحلقة، فإنها (بحمد الله) قد طفحت بما (يُعَنّف) الآذان من عثرات اللسان، ويهيئ لفارسي الإذاعة مضماراً للخطابة النقدية (فسيحاً فسيحا) تَخُبُّ فيه مطاياهما وتُوضِع.

قلت:- إنّ الأستاذين وسَّعا دائرة الخطأ في ذلك الفعل.. فعليَّ - إذاً - أن أُحرر هذه الدعوى العريضة، وإلاّ فويل لي من مِقْوَل صالح ولسان محمد.

نعم.. نعم، إنهما لم يجتزئا بإقرارها على الغلط حين فتحت من الفعل حرفاً يتعين ضمه، وإنما أَفسدا عليها حتى صوابها في كسرها الحاء من (أُحِس) فقال محمد: يشترط أن تُضَم، فهو بهذا الحكم (غير السليم) إنما يذكّرنا بالعبارة الخالدة (أصابت امرأة وأخطأ عمر) أجل، بل إن أستاذنا ضاعف السقطة إذْ قال: إنَّ الحاء هي (عين الفعل).. والحق: أنها ليست عينَه، ولا حتى أذنه، وإنما هي (فاؤه).. ثم قال - كذلك - (إنه ليس في اللغة العربية أن تكسر هذه الحاء) فصار بهذا (وفقه الله) كمن يبني قصراً ويهدم مصراً.. كلُّ ذلك جرى.. والدكتور يسمع ويرى، ويُؤَمِّن على ما يقول (ولو بالهمهمة) الدالة على القبول والتأييد.. فسبحان الله وبحمده!!

أما أنا فقد أظن أنّ الذي أوقع صاحبنا في هذا الاختلاج المستغرَب ممن هو في مقامه العلمي الرفيع، أنه أراد أن يظهر حذاقته في معرفة (باب الميزان الصرفي) ولكن طاشت سهمه، فكان منه ما كان (والله المستعان).

أجل أيها الفضلاء القراء، إننا لو طاوعنا الأستاذ (محمد عابس) و(د. صالح المحمود)، مقدمي (الاتجاه الصحيح) فشكلنا حروف الفعل على الصياغة التي يريدانها وهي (أَحُسُّ) بالهمزة مفتوحةً والحاء مضمومة لقلبنا معنى الكلام قلباً منكراً يصرفه عما تقصد أختنا إلى شيء آخرَ من المحال أن يخطِر لها على بال، لأن مرادها بعبارة (أُحس بالدفء ينتابني) هو الإحساس العلمي الشعوري، وأما (أَحُسّ) بفتح الهمزة وضم الحاء، فمعناه: (أقتل وأُفني) قال تعالى في (آل عمران) {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم} أي: تقتلونهم وتُفنونهم.. وبهذا يكون بين المعنيين (بُعد المشرقين).. أجل، إنّ التلفظ بهذا الفعل - حسب توجيه الأخوين - حَيْدةٌ تَزِيغُ بمعناه عن (الاتجاه الصحيح) إلى (المسار القبيح).

ثم طلع علينا من ميكرفون الاذاعة امرأةٌ تدعى (رجاء) قرأت كلمة من تأليفها، فقام إليها محمد يعاونه خدينه كذلك - فجعل يخطئها في أنها ضمت اللام في كلمة (جزيلُ) من قولها (ولك مني جزيلُ الشكر) وقال: الصواب فتحها لأنها مفعول به وليست فاعلاً.

وأنا أقول: إنّ هذا الحكم لم يسلم من الجور - كذلك - حيث أُرْتِج على أستاذنا فَوَهِمَ وأعرب (لك) إعراب (إليك). مع أنّ بينهما فرقاً جلياً، يظهر في الأسطر الجائية:

أولاً:- (لك مني جزيل الشكر) وتعرب هكذا: (لك) جار ومجرور، خبرمقدم، (جزيلُ): مبتدأ مؤخر مرفوع بالابتداء، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة.. قال تعالى:- {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}، وقال سبحانه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}، فالجملة هنا (خبرية).. فتأمل الأخرى الآتية في المادة (ثانياً) المصدّرة ب (إليكم)..

ثانياً: قال أستاذنا محمد عابس يوماً وهو يقرأ الأخبار في الإذاعة (إليكم نشرةَ الأخبار) وإعرابها هكذا:- (إليكم) اسم فعل أمر بمعنى خذوا، (نشرةَ) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة. والجملة هنا (طلبية إنشائية) ومن المعلوم أن بين الخبر والإنشاء فرقاً بعيداً.

ومما تقدم يتبيّن للأخوين الفاضلين موقع (لك) من الإعراب، وموقع (إليك) والفرق بينهما (إعراباً ومعنى وحروفاً) وأنه لا عُلْقة بين اللفظين (لا نَسَباً ولا صهراً) والأمثلة على ذلك - كما يعبّر مَشْيَخَتُنا - (أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر).

وبعد: فقد يكون سبب الالتباس لدى أخينا (سلمه الله) أنه - وهو يخطّئ الفتاة - أصدر عبارة طويلة مرتبكة (لا يكاد يُعرَف لها وجه ولا قفا) وهذا نصها:

(لك هنا طبعاً هنا أسلوب يسمى الفعل حر يعني خذ مني أو بما معناه وهو يؤول في اللغة فذلك يعني خذ مني جزيل الشكر هذا تأويل الجملة وليس فاعلاً أو شيء هي مفعول به لفعل محذوف إيجاباً).

هذه العبارة المختلِجة أنا لا أراها إلاّ من (الطِّلَّسْم) الذي لا يدل على شيء ولا يفهم منه شيء!

ثم هتف بالأخوين فتاة اسمها (صمت) وقرأت نصاً لها عنوانه (أغنية حب) جاء فيه هذه العبارة (هدية احترت كيف أُوَصِّلها لك) بفتح الواو وتشديد الصاد، فغلّطها الناقدان قائلين:- الصحيح (أُوْصِلها) بتسكين الواو وتخفيف الصاد، وقد انبرى لها الأستاذ محمد ينتقد الصيغة التي نطقت بها الأخت، لأنها (لهجة) يريد أنها عامية.. فقال ما نصه:

(هي تستخدم اللهجة بالخطأ غير المقصود، أُوَصِّلها هذه لهجة والأصح: أُوْصِلها.. فالفعل الأساسي أَوْصَل يوصِل طبعاً هي لهجة أُوَصل مقاضي أو شَغْلات).

نعم، بهذا التعبير تحدَّث الموجّه الفاضل.. لكن توجيهه هذا (مردود عليه) لأنّ الصواب فيه قد (خالفه وما حالفه).. وما هذا التغليط إلاّ من التخليط كذلك.

ألا ترون أنّا نقول: أوقف السيارة و(وقّفَها) وأوضح المسألة و(وضَّحها)؟؟.. وعلى هذين فقس.

وأبلغ من هذا كله قوله تعالى في سورة القصص {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ومن معاني التوصيل - هنا - بلّغناهم إياه.

أيها الأخوان الفاضلان، ألا أن برنامجنا هذا (كبير كبير) وشأنه (خطير خطير) لأنه كما تريد إذاعتنا الراشدة المرشِدة، وأهلها النبلاء، يحلل النصوص من نتاج المشاركين (نثراً وشعراً) ويعايرها بمقاييس النقد العلمي، ثم يصدر الأحكام لها أو عليها (كل بحسب حاله) فهو - إذاً - بِمثابة المدرّس في دار التعليم، منزلته عالية ونصائحه غالية، ولكنْ عثرتُهُ (واصمة) ولَبْطته (قاصمة) فإذا أشرف علينا الخطأ من جهته وأطلّ من نافذته، (فلا حول ولا قوة إلاّ بالله)!!

بالملح نصلح ما يُخْشَى تَغَيُّرُه

فكيف بالملح إن حَلَّتْ به الغِيَرُ

ويقول شوقي (رحمه الله):

وإذا المعلم ساء لحظَ بصيرة

جاءت على يده البصائر حُوْلا

ومن المعلوم أنّ من يفتي واحداً (فرداً) في مسألة ما.. فيخطئ في جوابه أهون أثراً من معلم ينشر الخطأ في فصل مدرسي تلاميذه (أربعون).. وإن أربعين يُلقَّنون الغلط لأخفُّ وأيسر ممن يُشِيعه (في الإذاعة) على من يسمعه من أهل الأرض جميعاً، لأنّ عقيرتها (صوتها) قد يبلغ من آفاق الكون ما يبلغه النيِّران (الشمس والقمر).. فتأمل هذا رحمك الله!!...

إخواني:

قد سمعت في البرنامج أموراً أخرى (لا تُعجب).. لكني أَعُدُّها (يسيرة).. بل أراها في مقام اللغويات كالَّلمَمِ من الخطايا في باب الأخلاقيات، ولهذا أغضيت عنها اختصاراً ورِفقاً بي في الكتابة وبكم في القراءة.

أيها الإخوان القراء، أنا لما سمعت تلك الحلقة من (الاتجاه الصحيح) وبدا لي فيها ما بدا، انتظرت فترة أتشَوَّف من يكتب فيها غيري ويكفيني مؤونة هذه المهمة الوَعِيرة.. وجعلت أغالب نفسي وأدافع قلمي عن التصدِّي لها، أنتظر أحداً ممن سمع ما سمعت يفعل ذلك.. أو أنّ مقدمي البرنامج يدركانه فيستدركانه بالتنويه والتصحيح في الإذاعة أو الجريدة، أما أنا فلست من الجرايد على شيء، وليس لي من وشيجة بها إلاّ أن أكون (قارئاً) وحَسْب.. ثم إن هذا الموضوع - بعينه - فني نقدي محتاج إلى تخصص علمي وتأهيل دراسي في (اللغة وآدابها) وأنا لم أُعدَّ نفسي لهذا.. وأما ما ترونه هاهنا - فليس إلا من ثمرة قراءتي (الفردية) في الكتب، ومن بعض صديقي ذوي التأهيل، وكذلك من مدرسة الحياة (كما يُعبِّر المتأخرون).. ولهذا، فقد عرفت قدري، ووقفت عند حدي، وتحاشيت عن التطاول إلى هذا المقام.

مَنْ لم يَقِف عند انتهاء قدره

تقاصرتْ عنهُ فسيحاتُ الخُطا

وصدق ابن دريد أب وبكر.

فلما تَصَرَّم كلُّ هذه الأيام، ولم أرَ أثراً من تنبيه إلى ما كان، حركت قلمي فيه بما تيسر لي (اجتهاداً) بحسب معرفتي، إذ لا يسوغ الإعراض عنه - بالكلية - ممن سمعه ووعاه، بل إن التفريط بطول التراخي والمطل حتى يزول وقته أمرٌ (غير سديد).

لا خير في الشيء انقضى وقتُهُ

ما لِقَتيلٍ حاجةُ بالطبيب

أيها الإِخوةُ الفضلاء، إنّ أغاليط البرنامج - في تلك الحلقة - قد بلغت مقداراً لا يستهان به، فخليق بالأستاذين الكريمين أن يتنبّها في قابل الأيام فيبذلا القُصارَى في التحقق من صحة النقد والتوجيه قبل إطلاق الكلام من الإذاعة، لئلا يكون ما لا يُحمَدُ، فيكبَر الفَتقُ ويتسعَ الخرق.

قدِّمْ لرجلك قبل الخَطْوِ موضِعَها

فمن علا زَلجاً عن غِرَّة زلقا

ومن المعلوم أنّ كل من يتصدّى لمثل هذه المهمة الإصلاحية العظيمة على نمط برنامجنا (الاتجاه الصحيح) فإنه يُعَرِّض نفسه لمثل هذا الذي كان، ويلقى من الّلأْواء ما لقي الأخَوان (نسأل الله لهما الإعانة).

ومَنْ ظنّ ممن يلاقي الحروب

بأنْ لا يُصابَ فقد ظنَّ عجزا

أقول هذا، وأُنْهِي دعواي بالالتفات إلى مسألة هَيِّنة تبدو للمستمعين في فاتحة البرنامج وفي خاتمته، ألا إنها (اسمه).. فقد لحظت فيما سمعت منه أن المذيع مرة يقول: (في الاتجاه الصحيح) وأخرى يقول: (الاتجاه الصحيح).. فهو يراوح بينهما بما يجعل اسم البرنامج تائهاً بين أَثْباج الصَّخَب واللجَب على رنين موسيقى (رقصة الإطلنطي) لصاحبها المغربي: عبدالقادر الراشدي.

وفّق الله الجميع للصواب في كل جواب.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد