Al Jazirah NewsPaper Tuesday  04/08/2009 G Issue 13459
الثلاثاء 13 شعبان 1430   العدد  13459
الحبر الأخضر
العلمانية الليبرالية وضياع هوية الوطن السياسية!!
د. عثمان العامر

 

من أكثر المصطلحات الفكرية الشائعة في الأوساط الثقافية العالمية والمحلية على حد سواء مصطلح (العلمانية الليبرالية) والذي تولد منه، وخرج من رحمه، ونسج على منواله، عدد من المصطلحات، وصيغ بسببه، وكتب من أجله، ودون في سبيله، عدد من المعاني والمفاهيم والنظريات التي مات البعض منها والبعض الآخر ما زال في عنفوان شبابه، وقد تابعت - خلال الأيام الماضية- كثيراً من الحوارات والمجادلات والكتابات الصحفية واللقاءات التلفزيونية المحلية والعربية، ولفت انتباهي وبشكل كبير عدم الدقة في استخدام هذا المصطلح على وجه الخصوص (العلمانية الليبرالية) رغم مرور كل هذه السنوات ونحن نلوكه ونعنون فيه ونتحدث عنه ويصم بعضنا البعض به، ولذا غالباً ما يغيب الحق ونختلف بل نتقاتل بسبب الجهل في المعنى المراد من هذا المصطلح أو ذاك، فالعلمانية -محل الحديث في هذا المقال- ترجمة عربية خاطئة للمصطلح الإنجليزي secularismالذي هو في الأصل مصطلح كنسي يعني -في قوانين الكنيسة الكاثوليكية- انتقال الرجل أو المرأة من الحياة المكرَّسة للدين إلى الحياة الدنيوية، أي تحولهم من رجال دين إلى رجال عاديين غير منخرطين بما له صلة بالكهنوت. وقد استعار الفكر الغربي هذا المصطلح لوصف الأشخاص أو التنظيمات أو الاتجاهات المتحررة من التأثيرات الدينية والقيود الكنسية. وتحليل حقيقة العلاقات المتداخلة بين هذا النموذج والدين، يفرض ضرورة التمييز بين أربعة أبعاد للظاهرة الدينية وهي:

- القيم الدينية.

- السلوك الديني بمعنى ممارسة الشعائر الدينية سواء بشكل فردي أو جماعي.

- السلوك السياسي الفردي المتأثر بالقيم والدوافع الدينية.

- السلوك القيادي بمعنى تدخل رجال الدين أو مؤسسات الدين وجماعاته في تشكيل السلوك السياسي وفي توجيه الحركة السياسية.

والاستقراء التاريخي والفكري يدلان على أن علمانية الليبرالية لا تتعارض -في الأصل- مع البعدين الأول والثاني من الظاهرة الدينية بسبب استقلالهما الوظيفي والحركي عن القيم السياسية والسلوك السلطوي الذي يمتد أثره إلى جميع مناحي الحياة، وتتعارض كلية مع البعدين الثالث والرابع من هذه الظاهرة لما يعنيه التسليم بهما من ارتباط حركي وتداخل وظيفي بين الظاهرة الدينية وظاهرة السلطة، وهو ما يتعارض مع منطق ظاهرة القومية أو الوطنية السياسية التي تقوم أصلاً على إبعاد أو فصل الوجود الديني عن الوجود الدنيوي وفي مقدمته الوجود السياسي، وهذا يعني أن العقيدة القومية أو الوطنية الليبرالية حلَّت محل الكاثوليكية أساساً للتجانس والاندماج بين الشعوب، ومنطلقاً لتحقيق الوحدة، ومصدراً للممارسات والنشاطات السياسية كافة.

هذه هي فلسفة الوحدة القومية أو الوطنية أو... بدلالتها الأولية: رفض إضفاء الطابع الديني على الوجود القومي أو الوطني أو الإقليمي، وتحقيق الانفصال الوظيفي والحركي بين المؤسسات الدينية والمؤسسات (الحياتية الدنيوية). ولم يكن أصحاب هذه الفلسفة من الغربيين -في الغالب الأعم- ملاحدة ينكرون وجود الله سبحانه وتعالى أو (لا أدريين) يشككون في وجوده عزّ وجلّ، لكنهم اعتبروا الديانة الكاثوليكية ديانة فردية أخلاقية روحانية تعنى بأمور السماء وتهتم بما وراء عالم الواقع، وليس لها اهتمام بالشئون الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية أصلاً، وهي لا تتفق مع القومية وتنقُصَها الوطنية، ومن ثم فهي لا تصلح أساساً لبناء الدولة، ولا عامل وحدة واندماج بين المواطنين ولا مصدراً لاستقاء القيم والمبادئ السياسية، ولا مرجعاً لتقييم الأوضاع الحياتية، لذا يجب استبعادها تماماً، وحصرها في دائرة الضمير الفردي والعلاقة الدينية.

والعلمانيون -في صنيعهم هذا- مهّدوا للإلحاد المطلق في الدين، وأوجدوا المتكأ المنطقي لبعض فلاسفة الماركسية، والوضعية الغربية، الملاحدة، أما عنهم في عالمنا العربي فالحديث في هذا الموضوع حديث ذو شجون، والصراع بين التيارات في بلاد العرب ما زال قائماً بل يشتد هذه الأيام، ولهؤلاء القوم في كل زمن لباس وعند كل منعطف وجه، ولكن لا يستلزم الطرح الحر والجرأة في الحديث بما هو خلاف المألوف والمتعارف عليه أنه من الدين وهو ليس كذلك، أو أنه محل اتفاق بين علماء الأمة عبر الزمان وفي كل مكان وهو خلاف ما قد يظن، أقول لا يستلزم لا هذا ولا ذاك وصم هذا الكاتب أو المثقف أو المفكر أو غيرهم بالعلماني الليبرالي، فالحرية ليست نبتة غربية علمانية بل هي إسلامية صرفة، والمطالبة بحقوق الإنسان (المرأة والرجل أو الطفل) من صلب الدين، والنقد ومن ثم البناء مهمة الأنبياء والمرسلين ومن بعدهم الرجال الصالحين المصلحين، ولكن المعيار الذي على أساسه يكون التصنيف والاختلاف هي الأرضية التي يقف عليها الكاتب والمثقف، والمنطلق الذي ينطلق منه، والرؤية والهدف، وهذا لا يؤخذ -مع احترامي الشديد للنقاد والمحللين والكتاب والمتحدثين- من مقال واحد أو حسب تشخيص ذاتي ناقص وضعيف، بل من خلال السبر والمتابعة ومعرفة الأرضية والمنطلق والرؤية والهدف والقراءة الموسعة في المذاهب والتيارات، ولهذا العلم رجاله مثل ما كان أهل الجرح والتعديل في علم الحديث.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد