Al Jazirah NewsPaper Wednesday  12/08/2009 G Issue 13467
الاربعاء 21 شعبان 1430   العدد  13467

الغاية القومية الإسرائيلية بين المخطط المرسوم والسلام المزعوم
اللواء الركن (م) سلامة بن هذال بن سعيدان

 

إن الغاية القومية لأية دولة هي المحور الذي تدور حوله سياستها الداخلية والخارجية، وداخل إطار هذه الغاية تتشكل المهام المطلوب إنجازها، كما تتفرع منها الأهداف القريبة والبعيدة بحيث يتجسد شكل ومحتوى هذه الأهداف على النحو الذي يساعد على إنجاز المهام وتحقيق المصالح الوطنية،

وبالتالي ينظم شؤون الحياة في الدولة، ويوحِّد عمل المؤسسات فيها، بما يفرض مكان هذه الدولة ضمن الأسرة الدولية ويضبط علاقاتها مع الدول الأخرى، ويكفل لها الاستقرار والاستمرار والازدهار.

ومهما تأثرت غاية الدولة بالمرجعية الدينية، وانعكست عليها أصولها التاريخية والفكرية وبصماتها العرقية، وتوفرت لها مقومات القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية فإن هذه الغاية تظل محكومة بوجود المبررات الشرعية، ومقيدة بقيود الاعتدال والوسطية، وحتى تكون الدولة في أحسن حالاتها وأفضل مستوياتها من حيث الاستقرار والأمن ورفاهية الشعب فإنه لا مندوحة أمامها من أن تتعامل مع الأحداث بواقعية، وأن تتوسل الوسائل المشروعة عند معالجتها، معتبرة الصراع المسلح هو الملاذ الأخير والمرحلة النهائية.

والغاية التي اعتادت كل دولة من دول العالم أن تقف عند حدودها وتحترم قيودها لا ينطبق مفهومها على الكيان الإسرائيلي الذي تطرف في غايته وأجحف في ممارساته مقسما غايته إلى مراحل وأهدف، فلا حدود جغرافية يلتزم بها، ولا اعتبارات قانونية وحقوق إنسانية يراعيها، ولا علاقات دولية وروابط جوار يلتفت إليها، بل استمرأ بسط سيطرته بالقوة والعنف والانتقال من واقع مفروض إلى آخر ووسيلته الاستيطان والتوسع من خلال العدوان، وقد عملت إسرائيل بعزم لا يمل وجهد لا يكل من أجل بلوغ الحد المقبول من غايتها وحتى تُلطف من تطرف هذه الغاية وتُخفف من مغالاتها أطرتها بإطار من الثوابت الدينية والتاريخية والفكرية التي تحفظ توازنها الزماني والمكاني، وتضفي عليها شيئا من الغموض والإبهام، كما جزأتها إلى أهداف مرحلية ومراحل زمنية، تدرجت فيها من إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين إلى إنشاء دولة إسرائيل.

وتتسم غاية الكيان الإسرائيلي بالحركية والتطور عن طريق خلق غايات ثانوية داخل إطار الغاية القومية لتحقيقها مرحلياً، وهذه الغاية القومية النهائية المزعومة هي إقامة ما يسمى بدولة إسرائيل الكبرى في فلسطين وما جاورها من أراض عربية من تجزئة هذه الغاية إلى عدة أهداف قومية يتم الوصول إليها على مراحل زمنية متتالية، ورغم إغراق هذا المطلب في التطرف وعدم الاعتراف به رسميا من قبل إسرائيل نفسها، واعتباره في بداية الصراع ضربا من الخيال إلا أن ما حققته إسرائيل من أهداف قومية وما فرضته من مواقف على أرض الواقع جعل قبول العرب لحل الدولتين والتشبث به تشبث اليائس مثل الذي رضي عن الوفاء باللفا، خاصة وأن هذا الحل في ظل صلف القيادة الإسرائيلية الجديدة وتعنتها، أصبح فاقداً مدلوله ومشكوكاً في حصوله، والمقارنة مؤلمة والفرق كبير بين منْ يستجدي السلام ومَنْ يرفع سلاحه مهدداً بالحرب، وما أصدق قول الشاعر:

وما هو إلا الغبن أن تقبل أمة

سلام الذي لا يرتضي غير حربها

وسياسة فرض الأمر الواقع أبلغ شاهد على شذوذ الغاية الإسرائيلية حيث تتطور المواقف المفروضة، وتتطور معها الأهداف بصورة تعكس التطرف في الغاية والتعسف في أساليب تنفيذها، وما السعي المتواصل والعمل الدؤوب لتفريغ الأرض من سكانها وإزالة الوجود الفلسطيني القائم عليها، وإحلال الهوية اليهوية محل الهوية العربية إلا صورة من صور تكريس الواقع والانطلاق منه إلى التوسع تحت ذريعة الأمن والعزف على أوتار الحدود الآمنة.

والتطرف في الغاية دفع الدولة اليهودية إلى أنها لم تكتف باللجوء إلى الوسائل والأساليب المشروعة وغير المشروعة لبناء قواتها المسلحة وامتلاك السلاح النووي، بل تجاوزت تحقيق الهدف العسكري والتفوق على العرب في هذا المجال إلى بلوغ الهدف السياسي المتمثل في تشتيت الفلسطينيين وضرب بعضهم ببعض، وتفتيت الصف العربي وإثارة النزاعات بينهم وممارسة الضغط السياسي والاقتصادي والمعنوي عليهم، وبالتالي تحقق لها ما أرادت على الصعيد العسكري والسياسي، وقد قال شمعون بيريز: (لكي نكون قوة سياسية في الشرق الاوسط يجب أن تتسع الخلافات بين العرب).

والإفراط في الغاية والتفريط فيها على طرفي نقيض، ولكن الإفراط في زمن السلم تتحكم فيه طبيعة المواقف والمستجدات صعوداً ونزولاً في وقت الحرب، أما التفريط في زمن السلم فتتضاعف آثاره السلبية في وقت الحرب، والبون شاسع بين ما يترتب على الحالة الأولى والثانوية من نتائج، وتمثل إسرائيل طرف المعادلة الأول في حين ينطبق طرفها الثاني على العرب، وقد قال الشاعر:

وغاية المفرط في سلمه

كغاية المفرط في حربه

ومثلما تطرفت إسرائيل في غايتها، وتعسفت في سياستها، وأجحفت في عنفها فإنها ذهبت بعيداً في خداعها وإظهارها عكس ما تبطن، وأبلغ مظاهر ذلك النفاق والتمويه أنها في أعقاب كل اعتداء تقوم به أو حرب تخوضها أو إرهاب تمارسه تلجأ إلى الدعوة إلى السلام والتصالح مع العرب لتغطية عدوانها من جانب وخلق موقف معاكس لإشغال العرب والعالم من جانب آخر.

ومن هذا المنطلق فإن الاستراتيجية الإسرائيلية عادة ما تملي على إسرائيل أن تعد نفسها، وتبدأ بالتحضير لشن العدوان، فإذا ما اطمأنت عن جاهزيتها قامت بتهيئة الرأي العام الخارجي مع تسريب رسائل ذات نبرة تصالحية وتوجيه دعوة سلام للتضليل والخداع، وبمجرد اكتمال الجاهزية، وتوطين الداخل للتعايش مع الظروف الطارئة تقوم بالعدوان، ثم بعد ذلك تؤدي السياسة دورها لتبريره وإضفاء الشرعية عليه، بالإضافة إلى التعتيم على آثاره وإخفاء معالمه من خلال الصخب الإعلامي والدعائي، والدعوة الخادعة إلى السلام.

والصراع العربي الإسرائيلي حافل بالمواقف التي تؤكد أن دعوة زعماء إسرائيل إلى السلام والمشاريع التي يطرحونها بهذا الشأن لا تعدوكونها في أحد جوانبها محاولة لكسب الوقت والاستعداد لمراحل تالية من التوسع وفرض الأمر الواقع، وفي الجانب الآخر تهدف إلى إرباك العرب وتضليل الرأي العام العالمي، ولا سيما وأنها تنقصها المصداقية، ولا تحمل في طياتها تعهدات ملزمة وأجندة محددة، وكل ما هنالك يحاول أصحابها تسجيل مواقف سياسية والخوض من خلالها في عموميات مبهمة ومفاهيم عائمة.

والصلح لم يكن في يوم من الأيام هدفاً من أهداف إسرائيل، وإنما تتخذ من الدعوة إليه وإظهار الرغبة فيه ستاراً تتوارى خلفه مؤقتاً، وسلماً تصعد عليه إلى هدف سياسي أو عسكري أو كليهما ضمن مخططها المرحلي والشامل، وصلحها الوحيد مع مصر لا يخرج عن هذه القاعدة حيث إن من أهدافها الثابتة والمعلنة عزل مصر وإخراجها عن معادلة الصراع، وقد ورد في بعض الوثائق الإسرائيلية ما نصه: (إن العمل السياسي التمهيدي الذي يجب أن تقوم به إسرائيل في الدول العربية بمساعدة الغرب، يعتبر على أعظم جانب من الأهمية لنجاح عملياتنا الحربية.. فهذا العمل التمهيدي يرمي إلى زرع بذور الشقاق بين الدول العربية وتقوية القوى المناوئة لمصر في تلك الدول).

وتربط إسرائيل جنوحها إلى السلم ورغبتها في الصلح مع العرب بأن يكون توازن القوى لصالحها، ونظرية توازن القوى في المفهوم الإسرائيلي تعني إخلال هذا التوازن بالنسبة للعرب، بحيث تتوفر لها جميع أسباب التفوق الكمي والكيفي على كل الدول العربية مجتمعة، وهذا التفوق يغريها بإملاء السلام بدلا من إحلاله، وقد قال شمعون بيريز: (إن السلام لن يأتي من نفسه، ولن يأتي عن طريق دولة عظمى، ولن ينمو السلام على أرض السياسة الحالية في الشرق الأوسط إلا بقوة إسرائيل وقدرتها على إقناع العرب). كما سبق ابن غوريون بالقول: (فالسبيل الوحيد لإقناع العرب بإقرار السلام وقبول الصلح ليس إلا رؤيتهم إسرائيل قوية).

وبعد أن أصبحت إسرائيل قوة محسوبة في المنطقة عسكريا وسياسيا واقتصاديا وعلميا فإن السلام الذي ترتئيه هو السلام الذي يخدم أهدافها وينسجم مع استراتيجيتها، ولا يتعارض مع أطماعها وتطلعاتها وبذلك تحرص كل الحرص على إعاقة الجهود المحلية والإقليمية والدولية الداعية إلى تحقيق سلام عادل، إذ إن السلام العادل يمنعها من التوسع، ويفرض عليها البقاء داخل حدود معينة، كما يقف في وجه استعمارها للأراضي ويحد من رغبتها الجامحة في تصفية قضية اللاجئين، مطالبا إياها بإقامة دولة فلسطينية، وهذا السلام يصطدم مع الثوابت التي لا تقبل التنازل عنها، ولا المساومة عليها، بما في ذلك الاستمرار في الاستيطان واستقبال المهاجرين الجدد وإنهاء قضية اللاجئين وإلغاء حقهم في العودة وعدم التفريط في شبر من الأرض، وقد قال شمعون بيريز: (علينا أن نستمر في سياسة التشدد في معاملة جيراننا لأنه لا يوجد لدى إسرائيل ما تستطيع التنازل عنه وليس في نيتنا ان نتخلى ولو عن سنتيمتر واحد).

والتحول الصوري في الموقف الإسرائيلي بشأن القضية الفلسطينية والمفاوضات التي جرت بين الطرفين في العقد الماضي وبداية العقد الحالي لا يعني هذا التحول أن ثمة رغبة إسرائيلية صادقة في التوصل إلى سلام عادل يرضي طرفي الصراع، بل إن طبيعة المفاوضات وتحولها من طريق مسدود إلى آخر وبالتالي تعثرها وجمودها، كل ذلك يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن إسرائيل لن تتخلى عن مزاعمها ولن تنصاع لمنطق الحق، طالما هو يعاكس رغبتها ولا يتفق مع غايتها، ومثلما كانت إسرائيل تمارس الخداع والتمويه من خلال دعوتها إلى سلام عبر وسائل إعلامها المختلفة في أعقاب كل عمل عدواني تقدم عليه أو تمهيداً لذلك العمل، فإنها تجسد الخداع والتضليل بصورة أكثر فاعلية وأشد تأثيراً عن طريق المفاوضات التي تجريها، محققة مكاسب من وراء العمل السياسي تعادل ما حصلت عليه نتيجة للعمل العسكري، وإذا ما تنبت هذا الموقف قيادة مثل قيادتها الجديدة وما تضعه أمام الطرف الآخر من شروط تعجيزية اتضح بجلاء ان إسرائيل تريد إملاء السلام وليس إحلاله، وهذا هو موضوع المقالة التالية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد