Al Jazirah NewsPaper Friday  14/08/2009 G Issue 13469
الجمعة 23 شعبان 1430   العدد  13469

رجال صدقوا: علي بن أبي طالب
د. محمد بن سعد الشويعر

 

رابع الخلفاء الراشدين، الذين أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بالأخذ بسنتهم مع سنته. فهو ابن عمّ رسول الله وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنها، وأول من اسلم من الصّبيان؛ إذْ أسلم بعد خديجة بنت خويلد،

وعمره لم يبلغ الحلم، وهو والد سيّدَيْ شباب أهل الجنة: الحسنُ والحسين، سِبْطَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهما.

ولد في مكة سنة (10) قبل البعثة، وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهو أوّل هاشمي ولد بين هاشميين، وأول خليفة من بني هاشم، وكان عليّ أصغر من جعفر وعقيل وطالب، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مكث في مكة يدعو قومه (13) سنة؛ فيكون عمر عليّ عندما أسلم عشر سنوات، لكنّ نُضْج عقله، وقوة إدراكه أكبر من عمره الزّمني، وقد روى ابن سعد في طبقاته، بسنده إلى عليّ رضي الله عنه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة وهو بمكة، فاتّخذتْ طعاماً، ثم قال لي: ادع لي بني طالب، فدعا أربعين، فقال لعليّ: هلمّ طعامك. قال علي فأتيتهم بثريدة، إنْ كان الرّجل منهم، ليأكل مثلها، فأكلوا منها جميعاً حتى أمسكوا.

ثم قال: اسقهم فسقيتهم بإناء، هو ريّ أحدهم، فشربوا منه جميعاً حتى صدروا، فقال أبو لهب: لقد سحركم محمد، فتفرقوا ولم يدعُهُمْ، فلبثوُا أياماً. ثم صنع لهم مثله، ثم أمرني فجمعتهم فطعمُوا، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم من يؤازرني على ما أنا عليه، ويجيبني على أنْ يكون أخي وله الجنة؟ فقلت: أنا يا رسول الله، وإني لأحدثهمْ سناً، وأحمشهم ساقاً، وسكت القوم، ثم قالوا: يا أبا طالب ألا ترى ابنك؟ فقال: دعوه فلنْ يألوا ابْن عمه خيراً.

فكان عليّ رضي الله عنه أوّل من صلىّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى أبو أيوب الأنصاريّ أن رسول الله قال: (لقد صلّتْ الملائكة عليّ، وعلى عليّ سبع سنين، وذاك لأنّه لم يصلّ معي رجل غيره)، وكان يُرْوىَ عنه رضي الله عنه أنه قال: أنا أوّل من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أجمع أهل التاريخ والسّير، كما قال ابن الأثير، على أنّ علياً شهد بدْراً، وغيرها من المشاهد، وأنّه لم يشهد تَبُوكْ لا غيْر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلّفه على أهله. وفي الهِجْرة: حدّث أبو رافع خلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، يخرج إليه بأهله، وأمَرهُ أن يؤدي عنه أمانته، ووصَايا من كان يوصى إليه، وما كان يؤتمن عليه مِنْ مال، فأدىَ عليّ أمانته كلّها وأمره بأنْ يضطجع على فراشه ليلة خرج.

وقال: إنّ قريشاً لم يفقدوني، رأوْكَ، فاضطجع على فراشه، وكانت قريش، تنظر إلى فراش النبيّ، فيرون علياً عليه فيظنونه النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أصبحوا رأوا عليه علياً، فقالوا: لو خرج محمد لخرج بعليّ معه.

فحبسهم الله بذلك عن طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم حين رأوا علياً، فخرج عليّ بعد ذلك في طلبه، بعدما أخرج إليه أهله، يمشي الليل ويكْمُن النّهار، حتى قدم المدينة، فلما بلغ النبيّ قدومه، قال: ادعوا لي علياً. قيل يا رسول الله لا يقدر أنْ يمشي، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه اعتنقه وبكى، رحمة بما بقدميه، من الورم، وكانتا تقطران دماً فتفل النبيّ صلى الله عليه وسلم في يديه، ومسح بهما رجليه، ودعا له بالعافية، فلم يشتكهما حتى استُشهد رضي الله عنه.

وكان سعد بن عبادة صاحب راية رسول الله، في المواطن كلّها، فإذا جاء وقت القتال أخذها علي بن أبي طالب.

وفي يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء، فلما كان من الغد أخذه عمر وقيل محمد بن سلمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدفعن لوائي إلى رجل لم يرجع حتى يفتح الله عليه، فصلّى عليه الصلاة والسلام، صلاة الغداة، ثم دعا باللّواء، فدعا علياً وهو يشتكي عينيه فمسحهما، ثم دفع إليه اللواء، ففتح الله على يديه. وفي رواية (إلى رجل يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه).

وفي يوم أحد رُويَ عن عكرمة، قال: قال عليّ: (لما تخلّى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أحد، نظرت في القتلى فلم أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: والله ما كان ليفرّ، وما أراه في القتلى، ولكنّ الله غضب علينا بما صنعنا فرفع نبيّه، فما فيّ خَيْرٌ من أن أقاتل حتى أُقتل، فكسرت جفن سيفي، ثم حملت على القوم، فأفرجوا لي، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم) (أسد الغابة 4-98).

وكان عليّ من كتّاب رسول الله، وهو الذي كتب الصلح في الحديبية، بين رسول الله وسهيل بن عمرو مندوب مشركي مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُشْهِدُهُ في كثير من رسائله، التي يكتبها للآخرين، في عطاياه لهم.

وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الفُلس (صنم طيء) ليهدمه، ويشنّ الغارات، فخرج في (200) مائتي فارس فأغار على حاضر آل حاتم، فأصابوا ابنة حاتم، فقدم به على رسول الله في سبايا من طيء.

ولما قيل له: يا أبا الحسن انعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: كان أبيض مُشْربَ بياضه بحمرة، أهدب الأشفار، أسود الحدقة، لا قصيراً ولا طويلاً، وهو إلى الطّول أقرب، عظيم المنكبين، في صدره مَسْربة، لا جعد ولا سبط، شثن الكفّ والقدم.

وعند أبي سعد في طبقاته: إذا مشي تكفأ كأنما يمشي في صَعُد، كأنّ العرق في وجهه اللؤلؤ، لم أر قبله، ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء يهودي إليه وهو في اليمن في يده صحيفة يقرأ فيها، وقال له: صف لي محمداً، فوصفه واليهودي يصدّقه صفة صفة، فأسلم اليهوديّ، بعدما تطابق ما قال عليّ، مع ما لديه في صحيفة من التوراة.

أمّا علمه فإنّ الإمام أحمد قال لابنه عبدالله: من تُريْد أن تُصْبحَ مثْلَهُ في المكانة العلمّية؟ قال: مثلك يا أبي، فأجابه: تربتْ يداك، كُنْتُ أتمنّى أنْ أكون مثل عليّ بن أبي طالب في العلم، فقصُرتْ عن ذلك همتي، وأنْتَ ستقصر دون علمي فاجعل همتك عالية، وأمنيتك بعيدة الغَوْر، ولن تصل إليها.

وقد روى سفيان بن عيينه قال: قال علي بن أبي طالب: تعلموا العلم فإذا عَلِمتموهُ فاكظموا عليه ولا تخلطوه فتمجه القلوب. وقد ذكر الزركلي أن علياً روى عن رسول الله (586) خمسمائة وستة وثمانين حديثاً. وكان نقش خاتمه (الله الملك)، وجُمعَتْ خُطَبه وأقواله ورسائله في كتاب سمّي نهج البلاغة، وقد طبع، ولبعض الباحثين شك في نسبته إليه كله، أما ما يرويه أصحاب الأقاصيص من شعره وما جمعوه وسموه ديوان علي بن أبي طالب، وهو مطبوع أيضاً، فمعظمه أو كله مدسوس عليه (الأعلام للزركليْ: 108).

وقد بارك الله في علمه؛ لأنه حريص على سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظه، وقد دعا له رسول الله، كما قال ابن الأثير بسنده إلى علي رضي الله عنه: قال بعثني رسول الله إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى اليمن، ويسألونني عن القضاء، ولا عِلمْ لي به، قال اُدْنُ. فدنوت فضرب بيده على صدري، ثم قال: (اللهم ثبت لسانهُ واهْدّ قلبه)، فلا والذي خلق الحبّة، وبرأ النسمة، شككت في قضاء بين اثنين بعد.

وجاء في الاستيعاب أنّ عبدالله بن مسعود قال: كُنّا نتحدث في قضاء عليّ، وأنّه أقضى أَهْل المدينة.

وقد أثنى على علمه وفضله كلُّ من سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيّب، وهما من كبار علماء التابعين رحمهما الله؛ فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا ثبت لنا الشيء عن عليّ لم نَعْدِلْ عنه إلى غيره، ويقول سعيد بن المسيّب: ما كان أحد من الناس يقول سلوني غير عليّ بن أبي طالب، كما كان ابن المسيب، يقول: كان عمر يتعوذ من مُعْضِلة ليس لها أبو حَسَنْ، وكان عمر يستشيره في كثير من المسائل العلميّة والفتيا.

وقد أخرج البخاريّ، في كتاب فضائل أصحاب رسول الله، باب مناقب عليّ بسنده أنّ رسول الله قال لعليّ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبيّ بعدي. ووثق هذا سعيد بن المسيب مِنْ راويه.

وقد غالى فيه بعض الجهلة، فجيء بجماعة يقولون بتأليهه رضي الله عنه؛ فنهاهم وزجرهم وأنذرهم فازدادوا إصْراراً، فجعل لهم حفرة بين المسجد والقصر وأوقد فيها ناراً، وقال: إني طارحكم فيها، أو ترجعوا فأبوا فقذف بهم فيها، وقال:

لما رأيت الأمراً مراً منكراً

أوقدْتُ ناري ودعوت قُنْبرا

وقنبر هذا هو مولاه، وبمثابة الوزير لأموره الخاصّة، ولكن هذا زادهم غُلُواً فيه، فتقاذفوا في هذه النار، وهم يقولون ما يعذب بالنار إلا ربّ النار، فلما رأى ذلك منهم أمر بإخمادها رضي الله عنه.

وكُتُبْ الفقه تشهد كثيراً بآراء وترجيحات عليّ رضي الله عنه؛ فقد أورد الكتّاني في معجم فقه السلّف ما يزيد على (364) ثلاثمائة وأربع وستين مسألة لعليّ رضي الله عنه.

وابن قدامة في المغني أورد حوالي (700) سبعمائة مسألة، وهذا نموذج من استئناس الفقهاء بعلمه؛ ما يدل على مكانته وسعة علمه، وقد أورد ابن حزم في المحلى أنّ عياً يرى الوضوء على من مسّ الصليب، مستدلاً بالحكاية التالية: استتاب عليّ المستورد العجليّ، ومسّ بيده صليباً، فكانت في عنق المستورد، فلما دخل عليّ في الصلاة، قدّم رجلاً، وذهب ثم أخبر الناس: أنه لم يفعل ذلك لحدث أحدثه، ولكنّه مسّ هذه الأرجاس، فأحبّ أن يحدث وضوءًا منها. وتقول أم سلمة رضي الله عنها: يطهر بول الولد الذكر برش الماء عليه رشاً، يزيل أثره، أما البنت الأنثى فإنّ بولها يُغْسلْ، وهذا هو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا مخالف له من الصحابة.

وفي الرجل إذا كان عليه جنابة، واغتسل منها، ثم خرج منه بقيّة من الجنابة بعد ذلك، فإن علي وابن عباس وعطاء من التابعين يرون أنه لا غسل عليه، رجلاً كان أو امرأة ، بالا أوْ لم يتبولا، وهو مذهب الإمام مالك.

وقد رُوي عن علي رضي الله عنه أنّه قضى في رجل اشترى ناقة، وشرط ثُنْيَاها، فقال: اذهبوا إلى السّوق فإذا بلغت أقصى ثمنها، فأعطوه حساب ثُنْياها من ثمنها. رواه ابن ماجه في مسنده.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد