Al Jazirah NewsPaper Saturday  15/08/2009 G Issue 13470
السبت 24 شعبان 1430   العدد  13470
هل تُصلح (الفلسفة) ما أفسده (الفكر)؟
محمد بن عيسى الكنعان

 

بعد الأحداث الإرهابية التي وقعت في كثير من دول العالم بما في ذلك المملكة التي لم تسلم من هذا الشر المتسربل برداء الدين ودعوى الجهاد الكاذبة، حتى وفق الله الأجهزة الأمنية السعودية في ملاحقة هذا الوباء الخطير واجتثاث جذوره في زمن قياسي...

... ومتابعة بقاياه ورصدها للقضاء عليه تماماً إن شاء الله، تلك الأحداث كشفت أن لدى شبابنا أزمة فكرية حادة وغياب وعي واضح يتمثلان بعدم قدرتهم على التوفيق بين (الفهم الصحيح) للدين و(التطبيق السليم) للواقع، فكانت النتيجة غلوا (فكريا) أنتج عنفاً (قولياً) ساقهم إلى إرهاب (عملي) كانت فيه لغة الدم حاضرة، دون الاكتراث بكل الانعكاسات السلبية لهذا الشر على أمن الوطن ووحدة الأمة بشكل عام.

الأزمة الفكرية الحادة والغياب العميق للوعي كانا محور الجدل بين المثقفين والمفكرين وكتاب الرأي داخل مجالنا الإسلامي وبالذات إطارنا المحلي، في محاولة جادة لتشخيص الداء المدمر بالوصل إلى كل أبعاده التاريخية المرتبطة بمكوناته الفكرية، من خلال معرفة الأسباب الحقيقية له والدوافع الكامنة فيه، التي جعلت من شبابنا (قنابل جاهزة) للانفجار تحت أية راية ترفع شعار الجهاد المزعوم وتدعي خدمة الإسلام، ومن ثم وضع الحلول الناجعة لهذه القضية الخطيرة التي تتخطف شباب الأمة وتحيلهم إلى (أدوات طيعة) تحركها أيد خفية ملوثة بدماء الأبرياء، وتوجهها عقول مجرمة صادرت تفكيرهم وقيدته بأغلال الطاعة الدينية العمياء، فملكت بذلك إرادتهم وكأنهم عبيد السخرة الفكرية لتنفيذ المخططات الإرهابية، فلا يسأل هذا الشاب (المبرمج) من قتل؟ ولماذا أفسد في الأرض؟ لأن (فكره) معطل تماماً عن السؤال البديهي، ونفسه (التائهة) صدقت أن بين الحياة الدنيا وجنة عرضها السماوات والأرض (حزام ناسف) بعد أن عبث الفقه المزيف في النصوص الشرعية ليبرر قتل النفوس المعصومة والمستأمنة والمعاهدة، من المجمعات السكنية إلى المباني الأمنية.

إذاً الإشكالية المحورية هي في (الفكر)، هذا الفكر الضال الذي تشكل من فهم خاطئ ومتطرف للنصوص الدينية ومن ثم الموقف الديني من الآخر، ففرخ شياطين الإرهاب وشوه صور العمل الإسلامي النقي، فما نعني بقولنا (فكر)؟ فلاسفة التنوير يقولون (الفكر) ينتج من الدماغ، كما العصارة الصفراء تنتج من الكبد أي أنه (نشاط ذهني)، كما أنه نزعة في التفكير بعيداً عن أية مفاهيم دينية واعتبارات ثقافية، وأهل اللغة والاصطلاح في ثقافتنا العربية يرون الفكر هو إعمال الخاطر في الشيء، أو إعمال العقل في ما هو معلوم لمعرفة ما هو مجهول، أو هو بشكل أشمل وضع قواعد ومبادئ وقيم لكل أشكال الحياة وفق الرؤية العقلية المجردة المعززة بالتجربة الإنسانية الحقيقية. وبذلك يمكن فهم (الفكر) عملياً بأنه جملة من التصورات والآراء المحددة لمجالات الحياة والعلاقات الإنسانية وفق منهج معين يستند إلى مرجعية معتبرة، سواءً كانت نصوصا دينية أو تجارب إنسانية أو فلسفات مادية أو قوانين وضعية. لهذا يمكن أن نصنف كثيرا من الاتجاهات والمذاهب الفكرية، فنقول (الفكر الخارجي) أي الذي يمارس فكر الخوارج بمنطلقاته الدينية من تكفير واستباحة الدماء والتغيير بالعنف، أو نقول (الفكر التغريبي) أي الذي يعمد إلى صياغة قيم ومبادئ المجتمع المسلم وفق الفلسفة الغربية الليبرالية القائمة على تكريس الحرية الفردية حسب الرؤية الوضعية للحياة، وهكذا بقية أشكال الفكر.

بعد هذا الاستعراض المقتضب لمفهوم الفكر وتمثيله، خاصةً إزاء (الفكر الديني المتشدد) الذي يلغي وسطية الإسلام ويصادر فضيلة الاعتدال ولا يعترف بما قرره علماء الدين الربانيون، ويهدد كل أشكال الحياة، سواءً بصورته (القصوى) الإرهابية القاتمة، أو بصورته (الدنيا) المتشددة في الأحكام الدينية، هل يمكن معالجة هذا الفكر عبر المؤسسات التعليمية والوسائل الإعلامية والمراكز الثقافية؟ لكونها الأكثر ارتباطاً بأجيال الوطن في مختلف الفئات العمرية، أهل الفلسفة ومحبيها والمهتمين بها والمؤمنين بسحرها الحضاري يتفقون على أن العلاج في (تدريس الفلسفة) من مراحل التعليم الأساسي إلى المستويات الأكاديمية، مع إشاعة ثقافتها على مستوى الأسرة، فالفلسفة التي تعني (محبة الحكمة) وصولاً إلى (معرفة الحقيقة) لكل شؤون الحياة يمكن أن تسهم في الحد من شطحات الفكر لدى شبابنا، لأنها تفتح كل الآفاق لطرح الأسئلة الشائكة، كما تحرر عقولهم من أغلال اجتماعية ليس لها علاقة بالدين، ومسلمات متوارثة هي في أصلها عادات وتقاليد، والنظر إلى ثقافات الأمم الأخرى بمنظار الاستفادة الحضارية وليس العداء الديني، كما أن الفلسفة بنظرهم تُسقط مسألة (الوصاية) الفكرية التي حولت الشباب إلى عقول مبرمجة معطلة تعمل تحت تأثير عقول أخرى، فضلاً عن أن الفلسفة تعزز القيم الإنسانية داخل المجتمع، خاصةً فضيلة (الحوار) واستماع الرأي الآخر وفق نظرية التكامل البشري وليس التصادم الفكري.

ولكن يبقى أكثر من سؤال محوري في قضية معالجة (الفكر المتشدد) الذي يتسلح بالنصوص الدينية والأمثلة التاريخية: هل يكون علاجه من خلال الفلسفة (بمناهجها الغربية) التي مازالت في الذهنية الجماهيرية طريقاً للزندقة والإلحاد والحرية البهيمية؟ خاصةً في ظل الطرح الليبرالي التغريبي المرتبط بهذه الفلسفة بما يكتبه بعض محبيها، أم يكون العلاج من خلال مراجعة الفلسفة الإسلامية وتهذيبها بحيث تتفق مع الدين؟ أم أن العلاج أولاً وأخيراً يكون من خلال نصوص الدين نفسه بإعادة قراءتها وفق عصرنا الذي نعيش فيه، مع تعزيز فكرة الانفتاح بين المدارس الفقهية والتعدد المذهبي؟ الإجابة أتركها لكم.

* * *



Kanaan999@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد