Al Jazirah NewsPaper Thursday  20/08/2009 G Issue 13475
الخميس 29 شعبان 1430   العدد  13475

لمن أبث الأسى؟!
ندى الشهري

 

قابلتها في إحدى المناسبات، كانت تجلس في مقعد مقابل لي، في بداية الأمر لم أركز على وجودها، ولكن نظري كان يقع عليها بين الفينة والفينة. تأملتها ملياً، هذه المرة، بدت على وجهها كل مظاهر الحزن واللوعة، رغم أننا نحضر مناسبة سعيدة، كان جميع من حضرها يبتسم ويضحك سواء أكانت تلك بسمات وضحكات صادقة، أم مفتعلة وباهتة. شعرت بفضول كبير لمراقبتها عن بعد، لكم تمنيت أن أجد حجة للجلوس بقربها والتحدث إليها. جلستْ في مقعدها الحزين، وحيدة، وبجانبها خادمة وطفل في الثانية من العمر لما يزل، أخذت تداعبه قليلاً ومن ثم توقفت عن ذلك حينما اقتربت منها أم ذلك الطفل! زجرتها تلك المرأة، وطلبت منها ألا تحمل الطفل أو تلاعبه مرة أخرى؟! امتثلت المرأة المسنة لتلك الأوامر، وعاصفة من الآلام تجتاح فؤادها، كان حزنها جمّاً، رهيباً لا يطاق، بعدها تركتها تلك القاسية، وتوجهت إلى ثلة من قريباتها لتشاركهن المرح (والطقطقة). رجعتُ ببصري إلى تلك المسنة البائسة، وليت الأرض ابتلعتني ولم أر منظر انكسارها وحزنها، أحسست بحزن طاغ أنشب في فؤادي مخالبه، وأنا أرى منظر الدموع المتحجرة في عينيها، كتمت ألمي وتوجهت نحوها، سلمت عليها، قبلت رأسها، قلت لها في تلعثم، فالعبارات تخونني، والحزن يعتصرني، قلت لها: أأنت من أقارب (أهل المناسبة)؟ فاكتفت بهز رأسها بلا، وظلت تنظر إليّ دون أن تنطق بكلمة! خاطبتها مرة أخرى وأنا أقاوم موجات الأسى التي تمور بداخلي: توقعت أن تكوني من أقاربهم؟ بعدها وجدتني أجلس بجانبها دون وعي، أخذت ابتسم للطفل البريء، وسألتها: طفل من هذا؟ وبعد صمت نطقت بمرارة، تسبقها آهات حرى وتنهيدة، حزنى (هذا حفيدي، ولد وليدي). اتخذت من سؤالي عن الطفل حجة لأفتح معها قنوات للحديث، كنت أسألها وكانت تجيبني باقتضاب، والحزن يغلف كلماتها. حاولت أنا مع كل تنهيدة تطلقها، التماسك، والسيطرة على مشاعري، هي لا تعلم أن منظرها البائس يثير في داخلي موجات من المرارة والألم، قلت لها: هل وجودي يزعجك؟ نظرت إليّ أخيراً، وقالت (لا يا بنيتي حياك)، وبمرور الوقت ألفتني تلك المسنة، وحكت لي مسلسل عذاباتها وجراحات قلبها، ومأساتها، على يد زوجة ابنها الوحيد، والذي ضحت من أجله بالغالي والنفيس، وهجرت من أجله كل متع الحياة، ورفضت أن تتزوج وتدخل عليه زوج أم ربما يكون ظالماً لا يخاف الله فيه، فيذوق على يديه القهر والحرمان. تقول: تفرغتُ لتربية ابني وحرصت على تعليمه حتى تخرج، وبعدها حصل على وظيفة جيدة، ففكرتُ في أن أزوجه ليكمل نصف دينه وأرى أحفادي، لكن آه وألف آه، ولدي أصبح منذ الأسبوع الأول من زواجه خاتماً في أصغر أصابع زوجته، فأصبح يسعى جاهداً لإرضاء تلك اللبوة الشرسة، ولو على حسابي، أصبح لا يجلس معي إلا لماماً، وإن جلس فتحت سمع وبصر تلك الزوجة، والتي تأمرني أن أبقى طوال اليوم في حجرتي، وألا أخرج منها إلا للضرورة، حتى حفيدي الحبيب لا أستطيع حمله أو تقبيله إلا على مرأى منها، والتي ما أن أسمعها حتى أنخرط في بكاء مرير، أتجه بعده لغرفتي لأعيش في قوقعة الوحدة والحزن، أما تلك الزوجة معدومة القلب والضمير، فتأمر الخادمة بأخذ الطفل لغرفته، وتعود هي الأخرى لمتابعة آخر عروض الأزياء، وكأنها لم تقترف جرماً شنيعاً! وحينما يحين وقت الطعام، يرسل طعامي إلى غرفتي لآكله وحيدة، لأن الزوجة المصون تتقزز من طريقة أكلي، دون تعليق أو اعتراض من ابني ذي الشخصية الضعيفة! والذي تنكر لكل تضحياتي! وكأن جزائي منه الجحود!!

يعلم الله أنها (كانت تبث لي أساها)، ولوعتها، والدموع متحجرة في عينيّ وعينيها، وقلبي بتخبط في أناته المكتومة، وفجأة جاءت زوجة الابن، وأخذت تنظر إليّ باستغراب، واختصرتُ عليها الأسئلة وأخبرتها بأني جلست للتو، لأسأل عن بعض الحاضرات. حاولتُ أخذ هاتف تلك المسنة المكلومة، ولم أوفق، واضطررت بعدها للخروج، وأنا أحمل في قلبي جبالاً من الحزن واللوعة.

أواه؟ أيعقل أن تنزع الرحمة كلياً من قلوب بعض البشر؟! لِمَ كل هذا التنكر والجحود من قبل الكثير من الأبناء لآبائهم وأمهاتهم، بعد الزواج؟! كيف يسمح هذا الابن الجاحد لزوجته بأن تتفنن في قهر وتعذيب أمه، كيف، بالله عليكم؟!

لِمَ يتعرض بعض كبار السن لدينا للتجاهل والنسيان والإيلام؟! لماذا بعد أن يربوا وينشئوا ويزوجوا أبناءهم، وبناتهم، يُهملون؟! والأدهى والأمر، من يزج والديه الشيخين الكبيرين بدار المسنين، إرضاء لزوجته المصون! أين رضا رب السماوات؟!

تقول لي إحدى الأخوات، إن إحدى قريباتها البعيدات كان من ضمن شروطها لقبول شخص تقدم لها، أن يخرج والديه من المنزل، وأن يودعهما دار العجزة! فهي المكان الأنسب لهما، لأنها ليست مستعدة للاعتناء بهما؟! ووجودهما لا لزمة له في حياتها الجديدة؟

وهل تعلمون ماذا كان رد (عريس الغفلة)؟ قال: طلباتك أوامر!!

وأخرى طلبت من والد زوجها، حمل حاجياته والانتقال إلى غرفة صغيرة فوق سطح المنزل، لأن رؤيته يومياً تسبب لها الكدر والضيق!!

آه يا قلبي، آه يا قلمي! كلماتي الحزنى تتعثر، لم تعد قادرة على الاسترسال، فكمية الألم والحزن والصدمة تخنق كلماتي، لهول ما أسمع وأرى من مسلسلات الإساءة لكبار السن على يد بعض زوجات الأبناء! دون أن يحركوا ساكناً؟!.

الله الله يا زوجات الأبناء في آبائهم وأمهاتهم، أكرموهم، ارحموا ضعفهم وشيبتهم، ليكن العطف والحنان مفتاحكم لقلوبهم، أليسوا بمثابة آبائكم، وأمهاتكم؟! إنهم روح الحياة وريحانها..، ناشدتكن بالله ألا تتخلين عن إنسانيتكن (ترى الدنيا دوارة)...

آخر الجراح

لعل قلب الليل أرحم بالقلوب الباكية

ولعل جفن الزهر أحفظ للدموع الجارية

فلكم أرقت مدامعي حتى تقرحت الجفون

ثم التفت فلم أجد قلباً يقاسمني الشجون

فعسى يكون الليل أرحم فهو مثلي يندب

وعسى يصون الزهر دمعي فهو مثلي يسكب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد