Al Jazirah NewsPaper Thursday  20/08/2009 G Issue 13475
الخميس 29 شعبان 1430   العدد  13475
قرطبة الإسلامية
د. خليل إبراهيم السعادات

 

نستذكر في هذه الأيام المباركة بعضاً من التاريخ الأندلسي الإسلامي القديم وأبدأ بمدينة قرطبة.

قرطبة مدينة وعاصمة مقاطعة تحمل أسمها بمنطقة الأندلس في جنوب إسبانيا تقع على ضفة نهر الوادي الكبير ويبلغ عدد سكانها حوالي 310.000 نسمة، اشتهرت أيام الحكم الإسلامي لإسبانيا حيث كانت عاصمة الدولة الأموية هناك ومن أهم معالمها مسجد قرطبة. تأسست قرطبة كمستوطنة رومانية على الجانب الشمالي لنهر الوادي الكبير (نهر بيتيس قديماً) في عصر جمهورية روما سنة 206 قبل الميلاد ثم صارت عاصمة الولاية بيتيكا جنوب إسبانيا ضمن الأمبراطورية الرومانية وقد ظلت قرطبة مدينة رومانية لمدة تزيد عن سبعة قرون ولذلك ما زالت في قرطبة آثار من الحكم الروماني أبرزها الجسر الروماني الذي يقطع الوادي الكبير وأطلال معبد روماني بالإضافة إلى ضريح روماني مكتشف حديثاً وظهر في قرطبة في تلك الفترة الفيلسوف سينيكا. بعد سقوط الدولة الرومانية على يد الغزوات المتتابعة من قبل القبائل الجرمانية انحدرت على شبه الجزيرة الأيبرية إسبانيا والبرتغال حالياً بعض هذه القبائل كالوندال والآلان وتبعهم القوط الغربيون الذي كان أمر الجزيرة بأكملها بما فيها قرطبة قد آل إليهم وقت وصول المسلمين في القرن الثامن الميلادي -الأول الهجري- بعد صراع مع الروم البيزنطيين وقد استولى الأمويون على قرطبة على يد القائد المغربي طارق بن زياد سنة 711م بعد أن عبر بقواته إلى أيبريا التي سماها المسلمون ببلاد الأندلس وقتل ملكها لذريق -رودريك- وقد جعل الأمويون الأندلس ولاية تابعة لولاية المغرب حتى جعلها عمر بن عبدالعزيز ولاية تتبع للعاصمة الأموية في دمشق بشكل مباشر، وجعل الأمويون قرطبة مقراً لولاتهم على الأندلس فظلت كذلك حتى سقوط الدولة الأموية على أيدي العباسيين عام 750م - ولم يعل شأن قرطبة إلا مع قدوم الأمير الأموي عبدالرحمن الداخل إلى الأندلس فاراً من العباسيين فاستولى على مقاليد الأمور في الأندلس الإسلامية وجعل قرطبة عاصمة له عام 756م وقد كان هذا بداية لعصر قرطبة الذهبي، حيث أصبحت عاصمة الأندلس الإسلامية بأكملها وأهم مدينة في شبه الجزيرة. وفي عهد الداخل بدأ العمل على جامع قرطبة الكبير الذي لا زال قائماً في المدينة اليوم واستمر الحكم بيد الأمويين من سلالة عبدالرحمن الداخل في هذه الفترة. وقد تعرضت الدولة الأموية لعدد من الثورات المتعاقبة وفقد أمراؤها مقاليد الأمور حتى تمكن أحد أحفاد الداخل عبدالرحمن الثالث الملقب بالناصر من إعادة توطين ملك الأمويين وإخضاع معظم الأندلس لسلطته في قرطبة وذلك في القرن العاشر الميلادي - الرابع الهجري- وقد بلغت به القوة إلى أن اتخذ لنفسه لقب خليفة المسلمين مستنداً إلى ما اعتبره حق أسرته القديم في الخلافة السابق لحق بني العباس. وقام الناصر بنقل حكومته إلى مدينة جديدة اختطها على بعد أميال من قرطبة أسماها الزهراء إلا أن قرطبة ظلت المدينة الرئيسية في البلاد.

بعد أحداث وقعة الربض وصلت المدينة لأوج مجدها في عهد الخليفة عبدالرحمن الناصر وابنه الحكم الثاني ثم تلاهم الحاجب المنصور بن أبي عامر الذي استولى على مقاليد السلطة في قرطبه وصير الخليفة الأموي سجيناً في الزهراء وابتنى له قصراً للحكم في طرف قرطبة أسماه بالمدينة الزهراء وقد كانت الأندلس وعاصمتها قرطبة من أهم الدول الأوروبية في القرن العاشر كانت منارة للعلم والثقافة في أوربا وعاصمة من عواصم الأدب والثقافة العربية والإسلامية وأنجبت المدينة في هذه الفترة الشاعر ابن زيدون والشاعرة الأموية ولادة بنت المستكفي والفقيه ابن حزم والعالم عباس بن فرناس كما انتقل إليها الموسيقي زرياب وفي العقدين 1020 - 1030 سقطت الخلافة بسبب ثورة البربر ونشوء ملوك الطوائف الذين قسموا الدولة إلى أكثر من 12 دويلة منها غرناطة وإشبيلية والمرية وبلنسية وطليطلة وسرقطة والبرازين وبطليوس. وتنازع حكام إشبيلية وطليطلة المسلمين على قرطبة حتى استقرت المدينة بيد ملك إشبيلية الطموح المعتمد بن عباد سنة 1078م ففقدت قرطبة مكانتها كعاصمة لدولة وبزغ نجم إشبيلية المجاورة لها بدلاً منها. وبينما ورثت دويلات الطوائف ثراء الخلافة إلا أن عدم استقرار الحكم فيها والتناحر المستمر بين بعضها البعض جعل منهم فريسة لمسيحيي الشمال إلى أن أفتى الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس ليوسف بن تاشفين زعيم دولة المرابطين في المغرب بخلعهم وانتزاع الأمر من أيديهم وصارت إليه بذلك فتاوى أهل الشرق الأعلام مثل الغزالي والسطرطوشي فاستولى على معظم الأندلس من أيدي ملوك الطوائف وانتظمت بلاد الأندلس بما فيها قرطبة في مملكة يوسف بن تاشفين وذلك عام 1091م وسقطت دولة المرابطين على يد حركة إسلامية أخرى هي حركة الموحدين فصارت قرطبة وباقي الأندلس الإسلامية بأيديهم في منتصف القرن الثاني عشر وقام الموحدون بإعادة عاصمة الأندلس إلى قرطبة فاستعادت شيئاً من مكانتها السابقة. وفي هذه الفترة ظهر في قرطبة الفيلسوف المسلم ابن رشد بالإضافة إلى العالم الديني اليهودي ابن ميمون أشهر فلاسفة اليهودية في العصور الوسطى. ولم يصمد الموحدون طويلاً بعد ذلك فقد انهزموا هزيمة قاصمة في معركة العقاب (لوس ناباس دي تولوز) عام 1212م فتهاوت بعد ذلك معظم المدن الإسلامية في الأندلس في أيدي مملكة مشتاله المسيحية فسقطت قرطبة عام 1236م على يد فرناندو الثالث بعدما يزيد على خمسة قرون من الحكم الإسلامي للمدينة. فرغت بعد ذلك قرطبة سريعاً من معظم سكانها المسلمين وسمح الملوك الإسبان لمن تبقى منهم بالبقاء على الإسلام بعد استيلائهم على المدينة أسوة بباقي المسلمين في الأندلس واستخدموا العمال والمهندسين المسلمين في تصميم مباني وقصور وكنائس لهم على الطراز الأندلسي وسمي المسلمون الباقون تحت حكم الإسبان بالمدجنين (مديخار بالإسبانية) ولكن ذلك لم يستمر طويلاً إذ بدؤوا بعد ذلك بالتضييق عليهم ثم إجبارهم على اعتناق المسيحية من خلال محاكم التفتيش إلى أن قررت إسبانيا طرد المسلمين وأحفادهم ممن اعتنق المسيحية من سائر البلاد، كما تم طرد اليهود منها أيضاً وذلك في بداية القرن السابع عشر وتم توزيع الأراضي والإقطاعيات على مهاجرين مسيحيين من الشمال أعادوا توطنين المدن مثل قرطبة. ولا يزال الحيان الإسلامي واليهودي القديمان معروفين في قرطبة الحالية كما بقي مسجدها الضخم قائماً في وسطها إلا أنه تم بناء كنيسة في قلب المسجد في القرن السادس عشر ويستخدم الجامع الآن ككاتدرائية تتبع الكنيسة الكاثوليكية وقد جعلت اليونسكو وسط مدينة قرطبة - الحي القديم بما فيه المسجد والحي اليهودي موقعاً من مواقع التراث العالمي بالإضافة إلى مدينة الزهراء المجاورة لقرطبة وعلى الله الاتكال.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد