هوليود - محمد رضا :
لا تزال الأفلام التي تتحدّث عن النازية، وعن هتلر وحكمه ورفاقه في الحكم وعن الحرب العالمية الثانية التي خاضتها ألمانيا وما حدث فيها وما نتج عنها، تتوارد كل عام على شكل إنتاجات أمريكية وأوروبية مختلفة. ولا يمكن في الواقع النظر إلى الأفلام الأمريكية الثلاث التي خرجت من مطلع هذا العام إلا في هذا الإطار. إنها (تحدٍ) للمخرج إدوارد زويك و فالكيري لبرايان سنجر وفيلم كوينتن تارانتينو الجديد
Inglorious Bastards الذي انطلق للعروض التجارية في أوروبا في الأسبوع الماضي وفي الولايات المتحدة ومناطق أخرى بدءاً من هذا الأسبوع في (إرذال غير جديرين بالمجد) لتارانتينو مجموعة من اليهود الذين يجمعهم ضابط في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية (براد بت) مؤججاً عامل الانتقام فيهم دافعاً إياهم لقتل النازيين كرد فعل مناسب لقيام هؤلاء بقتل اليهود. الفكرة ذاتها لا تبدو كما لو كانت تكترث لا للواقع ولا لليهود ولا لمعاداة النازية، بل لسلسلة من المواقف التي وصفها عدد من الذين شاهدوا الفيلم في مهرجان كان بأنها مسلية وآخرون وصفوها بأنها عنيفة.
لكن على الرغم من تعدد الاتجاهات التي تحويها الأفلام الثلاث المذكورة، بتعدد حكاياتها، فإنها تنتمي في النهاية إلى ظاهرة السينما النازية التي هي في واقعها ذات قسمين: قسم أنجبته السينما النازية ذاتها، فإذا هي أفلام متعاطفة وبل داعية كانت من تمويل وإشراف الأجهزة الإعلامية خلال الثلاثينات ثم خلال الحرب العالمية الثانية، وقسم كوّنته الأفلام التي تم إنتاجها في الغرب غالباً بعد أن وضعت الحرب أوزارها وهي أفلام معادية في أساسها للنازية وبعضها معاد لفكرة الحرب ومفهومها إجمالاً.
لكن هناك قسماً ثالثاً ينضوي تحت تسمية مختلفة هي أفلام الهولوكوست التي وإن كانت، بطبيعة الأحوال جميعاً، معادية للنازية الا أن ما تدور عنه وتنطلق منه لتصب فيه هو ما أصاب الشعب اليهودي (وحده) من ويلات وفواجع على أيدي القوّة النازية فجرّدت من امتيازاتها الاجتماعية والإدارية ولاحقاً الشخصية، ثم حوصرت في أحيائها في الدول التي احتلّتها ألمانيا، قبل أن تضع العديدين منهم في معسكرات، وحسب الروايات اليهودية، تم حرق ستة ملايين واحد منهم.
في المجموع، الأفلام المعادية للنازية طُرحت للتداول على الشاشات الكبيرة كل عام من حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وإلى اليوم، والموقف الذي يرفض التغيّر والتطوّر هو ذلك الذي يصوّر النازي شريراً حتى وإن كان مجرد جندي يؤمر فينفّذ ما يؤمر به، ليس لأننا نستطيع الإدعاء بأننا نعرف نازيين جيّدين لكن حين طرح ستيفن سبيلبرغ الموضوع في فيلمه المعروف (لائحة شيندلر)، (1993) وحين تبعه رومان بولانسكي بفيلم (عازف البيانو) (2002) قدّما شخصيتي (أحدهما متعاون والثاني ضابط) أقدما على إنقاذ اليهود من المحرقة. هذان الفيلمان هما الأشهر، في السنوات الخمس عشرة الأخيرة أو نحوها، بين تلك التي تجرّأت على إعادة الاعتبار إلى الشخصية الألمانية ولو بغاية طرح موضوع المأساة اليهودية في الوقت ذاته إليها، إنما من دون غايات مزدوجة، فيلم البولندي أندريه ايدا (الأسبوع المقدّس) (1965) وفيلم الألماني فولكر شلندروف (اليوم التاسع) (2004) وفيلم ستيفن دولدري (القارئ) (2008). كل واحد من هذه الأفلام أعاد البحث ليستخرج حكاية تعيد الثقة إلى شخصيات ألمانية من دون تجيير عملها لصالح الدعاية الصهيونية المتمثّلة في معظم ما تم إنتاجه من أفلام هولوكوست. وبذلك بحثت في شخصية الألماني من دون أن تؤيد شخصية النازي مفرّقة، كما كان يجب أن تفعل السينما منذ ذلك الحين، بين الشخصيات تبعاً لمواقفهم السياسية.
في هذا الإطار، لا يمكن تجاهل فيلم الروسي ألكسندر سوخوروف الذي قام سنة 1999 بتحقيق (مولوك)، أحد ثلاثية أنجزها هو بعض رموز الحرب العالمية الثانية. (مولوك) دار عن هتلر بينما تبعه بفيلم عن لينين
Telets عنوانه وذلك سنة 2001 ثم (الشمس) عن الإمبراطور الياباني هيروهيتو سنة 2005 ولا واحد من هذه الأفلام اكترث ليكرر المعهود من الطروحات المحفوظة، ولا المعروف من تنميط الشخصيات في محاولة المخرج اليائسة للتدليل على كم هو معاد لها. في (مولوك) تعامل المخرج مع مفاهيم جديدة بالنظر إلى الزعيم الألماني. لم يثره شرّه ولم يكترث في المقابل للترويج له، بل قدّم الصورة الكامنة في مفهوم القوّة وانحدارها وإذ يبدأ بعشيقته إيزا براون وهي ترقص عند حافة مبنى عال، ينتقل معها إلى قصر هتلر الكامن في جبال كالستين في الألب. تلك القلعة التي عُرفت سنة 1939 بأنها (عش الفوهرر) تتبدّى الآن، والفيلم يدور في الأشهر الأخيرة من حياة هتلر قبراً كبيراً تعيش فيها شخوص لم تعد قادرة على إنقاذ نفسها من مغبّة ما قامت به. فيلم للتأمّل الإنساني يرفض أن يتسيّس بالمنتشر من تصنيفات ويفضّل البقاء تحت مظلّة المخرج المعروف من أعمال تأمّلية في الذات والحياة داكنة المعالم والأجواء كدكانة تلك الحياة في صميمها.
مفاهيم صحيحة ولكن
لكن إذا ما كان (مولوك) واحداً من الأفلام النادرة التي تحدّثت عن هتلر من دون أن تأخذ منه مسافة عدائية وفي ذات الوقت من دون أن تمجّده بأي حال من الأحوال عامدة إلى وصم مبدأ السُلطة التي مثّلها، لمَ - قد يتساءل المرء - جهدت معظم الأفلام الأخرى في قراءة التاريخ النازي على ضوء المعطيات السلبية من دون أن تصل إلى ما حققه ذلك الفيلم من نتائج فيها، بكلمات أخرى: كيف حدث أن مفهوم إلحاق الأذى بالهتلرية، تمخّض طوال تلك الفترة من نهاية الحرب العالمية إلى اليوم عن أفلام سهلة القبول أو الرفض في حين أن الحرب ذاتها وما أدّت إليه والمفهوم الوجداني والفكري ثم الإنساني لها بقي بعيداً عن التداول بنفس النسبة على الأقل.
إنه من الصحيح - والسهل أيضاً - النظر إلى المسألة من مبادئ هي بدورها نمطية التفكير مثل الاعتقاد بأنه لا يوجد ما يمكن بحثه في الموضوع النازي خارج العداء له، أو أن الأفلام بحاجة إلى أبطال وأشرار ولا يمكن أن تؤول بطولتها لمن اصطلح العام على إدانتهم.
ليس هناك ما يمكن بحثه
في النازية خارج نطاق العداء لها
يستند هذا القول إلى مفاهيم لا تخلو من الصحّة: فلا يمكن تأييد النازية ولا أي حكم فاشي أو عنصري في أي مكان من العالم، والدراما، كيفما انتهت (اي إلى كتاب أو مسرحية أو فيلم) بحاجة إلى صراع ما والصراع المثالي هو ذاك الذي يقع بين الخير والشر، بين المرء وذاته، أو بين اثنين، أو بين فريقين أو شعبين أو دولتين? كذلك فإن السينما الحربية منسوجة من الحرب ذاتها وتتمثّل بما تمثّلت به: تجسّد انتصار من هنا وهزيمة من هناك. كذلك فإنه لا أحد مع إهدار دم الأبرياء يهودياً كان أو سواه. لكن هذه المبادئ ليست كل الحقيقة. ولا يمكن أن تكون سوى مسلّمات سهلة متّفق على مبادئها من دون كثير تفاوت. النظرة الأعمق تؤكد أن المسألة تختلف وأحياناً إلى حيث لم تذهب السينما لتأكيده إلا في حالات قليلة بسبب سيادة وانتشار تلك البديهيات والمسلّمات.
بادئ ذي بدء، فإنه يمكن بحث النازية خارج نطاق العداء لها.. يمكن بحثها كمفهوم سُلطة وكطينة حياة أصابت الألماني، كما كفكرة فلسفية بصرف النظر عن موقف معظمنا منها. والسينما إذ هي بحاجة إلى أخيار وأشرار إلا أن مفهوم البطولة التي تجسّده الكثير من أعمالها ليس ذاك الذي ينضوي على الواقع والقدرة على تفكيك الوضع الإنساني في غمار الأزمات والصراعات. كذلك فإن الأفلام التي دارت عن الحرب العالمية الثانية تستطيع أن تنقل النتائج أو توحي بها، لكن التمجيد هو سمة نوعية مارستها السينمات المحكومة بالتلوّث السلطوي كما حال الأفلام التي أنتجتها الماكينات النازية والفاشية والشيوعية سابقاً وأي سينما تلتمس تأييد السُلطة، أي سُلطة، عوض نقدها كما هي وظيفة المبدع الأساسية.