Al Jazirah NewsPaper Wednesday  26/08/2009 G Issue 13481
الاربعاء 05 رمضان 1430   العدد  13481
التعامل مع الأبناء فن
عبد الله بن محمد السعوي

 

تطالعنا وسائل الإعلام وعلى نحو شبه يومي بمآس أسرية تعكس في طياتها لونا من العلاقات الحادة التوتر بين الآباء والأبناء فالسلوكيات المتمردة من قِبل الأولاد، وزيادة نسبة الاعتداء على الآباء وتزايد معدلات الهروب من قبل الفتيات سجلت منحنى خطيرا

يفرض علينا المبادرة لوضع حد لذلك النزيف الذي أخذت إرهاصات استشرائه سبيلها إلى التكون. ذلك الجفاف الرهيب في العلاقات له عوامل متعددة سأشير إلى واحد منها، من وجهة نظري أننا كثيرا ما نغفله وهو ما يتعلق بتقصير الأبوين وعدم قيامهما على خير وجه بواجبهما التربوي وكأنهما بهذا التقصير يؤهلان الأبناء لسلوك خط التمرد والتجافي عن مقتضيات المكانة الأبوية!.

الحقيقة التربوية التي قد لا يدركها الكثيرون هي أن سوء التربية من قِبل الأبوين هو المقدمة الطبيعية لوجود تعامل جاف فاقد للكثير من التلطف من قِبل الأبناء، نعم خطأ الآباء ليس مبررا لتقصير الأبناء، لكن لاشك أنه عامل جوهري في حصول معموله. لكي نأخذ من أبنائنا حال الكبر، لا بد أن نعطيهم أيام الصغر، أما أن نعقهم صغارا - وهذا العقوق له صور عدة - ونطالبهم بالبر كبارا فهذا أمر لا نضمن نجاعته، إذ فاقد الشيء لا يعطيه، وكيف نقسو معهم ثم نطالبهم بأن يسبغوا علينا ضروب الوجد!، هذه لا شك ليست إلا معادلة ضيزى!.

تأمل معي قول الحق سبحانه {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}لاحظ كلمة (ربياني) حيث كأنه علل الترحم على الأبوين وهو حق لهما يجب على الابن القيام به، علله بقيامهما بدورهما التربوي الذي هو واجب عليهما تجاه الابن. إعانة الابن على البر واجب يحاسب الوالدان على إغفاله كما أن بر الوالدين مسؤولية إن تخلى عنها الابن ستطاله تبعات التنصل منها.

الكثيرون يتذمرون من سوء تعامل أبنائهم وإذا تأملتَ أدركت أنهم السبب الأول في ذلك، فتربيتهم تقوم بشكل عفوي لا على أساس علمي ولو سألت أحدهم هل قرأت كتابا في التربية، أو استمعت إلى برنامج في هذا المضمار، أو استفسرت من متخصص تربوي، أو حضرت دورة، أو استفدت من تجربة، لأجابك من فوره بالنفي!.

إن التسلط الأبوي أو عدم القراءة الصحيحة لشخصيات الأبناء، أو عدم تنمية الحس الديني المعتدل لديهم أو التفنن -بلا قصد!- في تنويع الأساليب التنفيرية التي تقلل من درجة إقبالهم، كل ذلك لا يجعل هؤلاء الآباء يظفرون بالمعاملة التي يتطلعون إليها.

إن الأسرة هي البيئة الاجتماعية الأكثر تأثيرا في الإنسان فالأبوين بسلوكهما في محيط الأسرة يمدان أبناءهما بنماذج سلوكية حية تؤثر على شخصياتهم وآلية تعاطيهم مع الحياة وهو الأمر الذي فطن له قوم (مريم) عليها السلام حين قالوا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}ولذا فعند حدوث خلل مّا في الشخصية فتش عن الأسرة وعن ظروف التنشئة العائلية وغالبا لن يعييك الظفر بجزء من عوامل ذلك.

في أحيان كثيرة قد يعاني أحد الأبوين من مرض نفسي وهنا يفترض ببقية أفراد الأسرة أخذ ذلك في الحسبان وعدم الانسياق المتهور خلف ما يمليه من توجهات، أو ما يتخذ من قرارات فتكون الأسرة بأكملها عبارة عن قطيع تسيره العواطف بشكل لا يتيح له تحسس مواضع أقدامه، والكارثة النابعة من الجهل عندما يتم التعامل مع ذلك على أنه نوع من البر!، نعم، البر مطلب لا بد من تحقيقه، لكن البر لا يعني التواطؤ معه في كافة سلوكياته، وإنما البر يقتضي حجزه عن مواقعه الخطأ ولفت انتباهه بالآلية الملائمة مع الأخذ بالاعتبار ذلك البعد النفسي الذي سيقلل بطريقة أو بأخرى من فرص التوافق.

لاعتبارات كثيرة يتفاوت الناس في الآليات التربوية التي يتعاطونها مع أبنائهم فهناك أسر لديها براعة فائقة في تحفيز أبنائها على العقوق من خلال اعتماد القسوة والعنف وإثراء اللغة التهديدية؛ قوام تلك الطريقة التربوية القسر والإكراه والمنع فيتم فرض الأفكار على سبيل الإملاء الإجباري العلاقة هنا تقوم على سيد ومسود من خلال الأمر والنهي المباشر والوقوف أمام الرغبات التلقائية المشروعة للأبناء فهي علاقة فاقدة للارتباط الروحي ولا تنطوي على أية مشاعر حميمية دافئة! وإذا كانت العلاقة بهذا الشكل فمن الطبيعي ألا يتكون لدى الأبناء رباط ودي بآبائهم بل حتى ولو قاموا بالبر فهذا البر قد يكون نتيجة للشعور به كواجب ديني فقط، وليس بالضرورة أن يتواكب معه ميل قلبي، ومن المعروف - وهذه قضية تغيب عن أذهاننا كثيرا- أن كل ابن مطالب بالبر، لكنه غير مطالب شرعا بأن تنطوي جوانحه على ميل وجداني لم يُزود بمبلوراته.

إن التربية القائمة على التسلط لا شك مرفوضة تماما في الأدبيات الإسلامية التي تحث على اعتماد السبل التي تشعر الأبناء بأن مكانتهم مرموقة وبأن ذواتهم لها حظوة لا تقدر بثمن وبأن الوالدين يمثلان المنهل الجوهري الأول لشعورهم بالأمان.

إن نجاح الأبوين في جعل توجيهاتهما تستقر في أخلاد الأبناء وتنعكس تلقائيا على سلوكهم وتتجسد في حياتهم اليومية دون شعور بالكلفة والعناء مرتبط بما يحتويان عليه من مهارات عالية في التواصل بشكل يشدّ الأبناء.

الأفكار القيمة لا يسوغ أن يكره عليها الأبناء حيث من المفترض أن توشح بقوالب جمالية وأن يجري طرحها بنوع من التلطف الذي يضيف إليها الكثير من الجاذبية ويحيلها إلى محل إغراء حتى يسلس انقياد الأبناء فيتمثلونها بل وقد يمارسون شيئا من التضحية في سبيلها.

التعامل مع الأبناء فن مظنون به على سوى أربابه! والشخص القيادي التربوي الأقرب إلى السواء هو الذي يؤسس لعلاقة أبوية مترعة بالثقة فهي لا تقوم على المراقبة العسكرية المباشرة مراقبة رجل لرجل على نحو يُشعر الابن بأن كافة تحركاته مرصودة وأنها تحت المجهر وكأنه مطلوب أمني! فهذا النوع من الرقابة لا ينجح إلا في زيادة معدلات النفاق ولا ينجم عنه سوى كائنات مظهرية تحتفي بالأنماط الصورية فإذا خلت بذاتها مارست هتك المنظومة القيمية التي تتمثلها -رهبة - على الصعيد الشكلي بينما المضمون خاو من أي رصيد داخلي. مثل هذه الأساليب قد يشعر الابن جراءها بالخوف من والده وبالتالي سيفتقر للرباط الوجداني معه.

ثمة من يضع القيود على ابنه أو ابنته ويحجر عليه ويتعاطى معه على نحو تجسسي مما يولد شعورا لدى الابن بالنفور فيضمر المقت وتشتد لديه محفزات التمرد، وتتأسس لديه بذور الكراهية لوسطه الأسري وتكون الملامح العدوانية هي الأبرز في شخصيته.

إن الثقة المطلوبة هي نسبية بطبيعة الحال وتُمنح لكل فرد بحسبه فالثقة العمياء أو التي توضع في غير سياقها المعتبر تكون عامل هدم من الطراز الأول.

الثقة اللامقننة تحد من فاعلية الإصلاح، والمطلوب ثقة تقدر بقدرها فلا تُصرف بإفراط ولا تحجب بدون مبرر، والأسلوب التربوي اللائق هو ذلك الذي يقوم على (الإقناع) لا على (الإخضاع) فيتيح للابن الإفصاح عن وجهة نظره وما يختلج في كيانه بكل جلاء لتعزيز ثقته بذاته وإنضاج حس المسؤولية لديه.

إن من الجوهري اعتماد التجاهل في بعض المواقف وغض الطرف عن بعض السلوكيات الخارجة عن دائرة رضانا وإن كان ولا بد ففي التلميح عن التصريح غنية واستدعاء الإجمال بديلا عن التفصيل هو الأحكم في كثير من السياقات.

إن من حصافة المربي أن يصطفي الأحوال الملائمة للتوجيه الذي يفترض أن ينحو في كثير من الأحيان منحى غير مباشر مع ضرورة استكناه الاتجاه الذهني للابن وتحسس موقفه الشعوري تجاه الوقائع والأحداث والمعطيات المختلفة.

إن مفردات الإطراء والتشجيع ومبدأ الثواب لها الأثر البارز في تحفيز الابن وضخ جرعات عالية من الثقة تحدوه للقيام بالأعمال الايجابية وتعزيز تصرفاته الخيرة.

من الضروري أن يدرك الأب أن كل تحركاته محسوبة ويُنظر إليه على أنه قدوة مما يحتم عليه إبداء قدر كبير من التحفظ في سلوكه العام وإيجاد انطباعات إيجابية عنه يلمسها الابن لا من خلال كثرة الكلام فحسب بل من خلال ما يشعه مجمل الشخصية فذلك هو المترجم الفعلي لحقيقة الذات؛ وبما أن الأب قدوة مثالية في تصور أبنائه فلا مناص أمامه من ترشيد سلوكياته وتلافي المسالك التي قد توهن الثقة به وتشوه صورته أو تشعر من تحت يده بوجود فجوة بين المبدأ الذي لا يفتأ يرفع شعاره، وبين التطبيق الذي يجسده على أرض الواقع!، فإذا كان الأب يحث على أشياء ويخالفها إبان حركته اليومية فإن الابن لن يعد يتلقى ما يلقى إليه بدرجة عالية من المصداقية.

وصفوة القول: أبناؤنا هم المشروع الاستثماري الأول فهم رصيد المستقبل البشري ولذا فيفترض أن ننفذ إلى قلوبهم ونغدق عليهم حبنا وألا نكتفي بذلك، بل نشعرهم بهذا الحب ونصرح لهم به ليبادلوننا الشعور ذاته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نفوت الفرصة على المصطادين في الماء العكر وعلى أصدقاء السوء الذين يتطلعون لاختطافهم من بين أيدينا وزجهم في سياقات مشوهة ومجالات مشبوهة نحن أول من سيعض أصابع الندم على سقوطهم في مستنقعاتها الآسنة!.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد