Al Jazirah NewsPaper Friday  28/08/2009 G Issue 13483
الجمعة 07 رمضان 1430   العدد  13483
الكذب في حياتنا.. صور متعددة.. وأسئلة حائرة
محمد عبدالكريم عبده

 

هل النفاق طبيعة في الإنسان، يتدثر في دواخله ليظهره عند الحاجة؟ وهل الكذب جزء من هذه الطبيعة؟ يجيب الإخصائيون بنعم، لكنهم يستدركون أنها من الطبائع الممكن كبحها أو بالأحرى تطويعها أو تعطيلها، وقد نادى الإسلام بتحري الصدق حتى لا يكتب المرء عند الله كذابا إن لم يفعل، الشيء الذي يؤكد صدقية مقولة: (من الممكن كبحها أو تعطيلها) بعض البحوث الحديثة حول (الكذب) أظهرت الكثير والمثير.....

.....كتب روبرت فلدمان في (الجارديان) يقول إن هيلاري كلينتون إبان حملتها الانتخابية للرئاسة عن الحزب الديمقراطي الأمريكي، وأثناء مخاطبتها لحشد من المناصرين لها ذكرت تجربة عاشتها أثناء زيارة قامت بها إلى البوسنة إبان محنتها قبل أكثر من عقد من الزمان، تقول كلينتون: أذكر أنني أثناء مغادرتي للطائرة، وسط مخاطر محتملة من وجود قناصة منتشرين هنا وهناك نسيت معها من كانوا في استقبالها وهي تسرع الخطى نحو السيارة التي أقلتها إلى القاعدة الأمريكية، لكن وكما يؤكد فلدمان، الصور التي التقطت لهذه المناسبة تظهر هيلاري كلينتون وهي تمشي هادئة بصحبة ابنتها وكان شيئا لم يكن، وأثناء نفس الانتخابات، نجد ميت رومني، وهو أحد المرشحين للرئاسة عن الحزب الجمهوري، ادعى أثناء خطاب ألقاه بأن والده، جورج رومني، حاكم ميتشجان آنذاك، شارك الزعيم الأمريكي مارتن لوثر كنج مسيرته الشهيرة، لكن سرعان ما تبين أن الأب رومني لم يقم بذلك.

يقول فلدمان، إنه من اليسير القول بأن معظم الشخصيات المؤثرة وبطبيعتهم جبلوا على النفاق، ولكن كيف انطلى هذا النفاق على مناصريهم الداعمين لهم لكي يمثلونهم، بدلا من نبذهم وإبعادهم؟

عدة محاولات أجريت لمعرفة طبيعة الكذب العام وسبر كنهه، وعن إحدى هذه المحاولات يقول أحدهم: (حاولت إيجاد حقيقة الكذب، بصورة عامة من خلال استطلاع شخصي قمت به دون تحديد أو تدقيق لعينات بعينها، أجريت دراستي على أكثر من مائة شخص من الجنسين في حالاتهم العادية، من بين الحالات، قمت بجمع شخصيتين بصورة عشوائية وتركت لهم المجال لكي يتعارفوا، واستغرق ذلك حوالي عشر دقائق، لم أخبرهم بأنني بصدد إجراء دراسة ولا عن طبيعتها، وبدلا عن ذلك أخبرتهم عن شغفي لمعرفة كيفية معرفة الناس لبعضهم البعض وكيف تتم عملية التداخل وخلق العلاقات وما إلى ذلك، لقد كنت حريصاً على تصوير التجارب اليومية بصورتها الطبيعية.

المحادثة التي تمت تخللها الكثير من الكذب والادعاء، فالكل قدم نفسه بصورة بعيدة عن واقعه مختلقا الكثير من الصفات التي تضخم من شخصه ومن مكانتها، أيضا قدم أحدهم نفسه لإحدى السيدات بأنه يدعى تم، وأنه على رأس فرقة موسيقية، وأنه مغني الفرقة وأنهم بصدد التعاقد مع إحدى شركات التسجيل الكبرى، وحالة ثالثة هي حالة ناتاشا، التي ادعت تفوقها في العزف على البيانو، وأنها في إحدى المنافسات التي اشتركت فيها، قامت بجولة حول مدن الوطن بصحبة فرقة موسيقية معروفة، أشياء قد يتوقعها كل منا من اثنين يلتقيان للمرة الأولى ويعرف كل منها نفسه للآخر.

ومن الطبيعي أن ينفخ أحدهم بعض الشيء لتفخيم صورته أو ما شابه ذلك، لكن ما السر وراء هذا الادعاء أو بالأحرى الكذب؟ ناتاشا لم تقم بجولة وفرقة (تم) لم تتعاقد مع إحدى الشركات الكبرى، ولا توجد فرقة أصلا، هذه بعض النماذج التي تمثل الطابع الغريب لهذه الظاهرة إن صحت تسميتنا أو وصفنا لها بكونها ظاهرة، إنهم يكذبون بصورة متكررة، في المحادثات الآنفة الذكر والتي استغرقت حوالي عشر دقائق، كذب أحدهم ثلاث مرات، وآخر ارتفع بكذباته إلى 12 كذبة، وقد تزيد عن ذلك.

بلا شك البحوث التي يطلب فيها من الطالب أن يكتب عن يومياته، وعن التعاملات الاجتماعية التي تحدث خلال اليوم، هذه البحوث أكدت وقوع الكذب وبصورة متكررة حتى في الحالات التي تتم فيها عملية التداخل بين ذوي القرابة والأرحام، وبالرغم من أن الكذب يتم بمستويات متدنية، ومعظمها من ذلك النوع الذي يطلق عليه (الكذبة البيضاء)، لكنه أصبح جزءاً من الحياة اليومية الروتينية، في العلاقات بين الأزواج، المحبين والأصدقاء وأفراد الأسرة الواحدة.

ولكن لماذا يتم ذلك عندما نلتقي الغرباء التي تجمعنا معهم لحظات قد لا تتكرر مرة أخرى؟ لماذا الحديث عن فرقة موسيقية وهمية ومنافسة لم تحدث؟ قد لا نفكر كثيراً حول مدى صدقية مدير مصنع التبغ الذي يكذب في حديثه حول أخطار التدخين، فالربح أو تجنب العقاب قد تكون دوافع تحض على الكذب، وهنالك جانب كما يؤكد علماء النفس مرتبط بالتوازن النفسي كدافع للكذب وهناك مرضى (الميثومانيا) أو النزوع نحو الكذب، أو الكذب المرضي، وهي حالات نادرة جداً كما يؤكد العلماء، على سبيل المثال نجد (تم) عندما أخبر السيدة عن فرقته الوهمية عن العقد الوهمي مع شركة التسجيل، لم يخطر بباله أبداً أنه يخدعها، لأنه على علم تام بأنه لن يلتقيها مرة أخرى ولن تربطه بها أي رابط مستقبلي، فالكذبة ثانوية بالنسبة لها، لكنها هدفها الأولى هو الدفع بشخصيته نحو الارتقاء، أي بأسلوب آخر (يكذب من أجل نفسه).

أحياناً قد يفيد الكذب الحديث، فأحيانا نجد أن التحري التام للصدق في كل ما نقوله، قد يبتر مسار الحديث الطبيعي، فعلى سبيل المثال، أراد أحد الأصدقاء أن يخبرك عن الأوقات الطيبة التي قضاها في بيت (أحمد) مثلا في عطلة نهاية الأسبوع، فقطع حديثه ليسألك، هل تعرف أين يقع منزل أحمد؟ فالحديث سيستمر بصورة أكثر انسيابية، إذا ومات بمعرفتك للبيت، وأسمى هذا النوع من الكذب (كذبة للموافقة الاجتماعية)، وبالتأكيد علماء النفس وجدوا ارتباطاً ما بين الأفراد الذين حققوا نجاحاً اجتماعياً، والمقدرة على الخداع، فالمشاهير هم الأكثر كذباً.

ماذا يظهر الكذب وكأنه يزيد من مقدرة الفرد أو محبب إليه، لماذا لا يظل الفرد على ما هو عليه؟ أن يظل الفرد كما هو، إذا أمعنا النظر يتطلب جهوداً خلاقة، تعبيرنا عن ذواتنا يقتضي خيارات تعكس البيئة الاجتماعية وعلاقات الأفراد فيما بينهم، نعكس أمزجتنا، وشخصياتنا وحاجتنا للحفاظ على صورنا الشخصية، إذا اعتبرنا تقديم النفس كعملية خلق وإبداع يمكننا أن نرى كم هو سهل أن ينزلق نحو الخداع، كل تفاعل، يشتمل على قرارات حول أي الصفات تؤكد وأيها تقلل، أي الدوافع جديرة بالاتباع وأيهما يجب أن تهمل، في بعض الجوانب، قد لا تختار من بين سماتنا الحقيقية ومن بين ردود أفعالنا المخلصة، نحن ببساطة، نختلق لأنفسنا سمات جديدة وردود أفعال جديدة تطلبها الظروف الاجتماعية، أو ما نعتقد أنها تتطلبه، وبعبارة أخرى ربما كذبنا.

الدراسات المتعاقبة أظهرت بأن معظم الناس، يعتقدون بأنهم يملكون المقدرة على كشف الكذب وفي عام 2006م نجد العالمين النفسانيين، شارلز بوند وبيلا دي باولو، قامات بتحليل عشرات الآلاف من إنجازات الأفراد، ووجدوا أن الناس يمكنهم التفريق بين الحقيقة والكذب فقط 47% من الزمن، وبعبارة أخرى، نحن فاشلون في التفريق بين الحقيقة والكذب أن طلبنا ذلك بأسس علمية، بينما تزيد النسبة أن فعلنا ذلك بصورة عشوائية، لماذا؟ أولا، دعنا نفترض بأن عملية كشف الكذب مهارة ككل المهارات المعروفة، والطريقة التي تحصل بها على المهارة وتطويرها هي الممارسة، ولكن كيف نمارس طريقة كشف الكذب في الحياة العادية؟ فعملية الكشف هذه من الصعب السيطرة عليها، كنا نعتقد بأن هنالك علامات أو تغيرات مفاجئة مصاحبة للشخص الكاذب، مثلا نجحظ عيناه، تسيخ أقدامه ولا تقوى على حمله، وإن كانت الكذبة من ذات الوزن الثقيل، نجده يتفصد عرقا، الغريب أننا نكتفي بتلك العلاقات فنعلن براءة الكاذب عند غيابها، لكن الخبراء في مجال الكذب والخداع توصلوا إلى أنه لا توجد روابط فيزيائية تثبت بأن الشخص كاذب، والاختلافات بين الناس حول هذه العلامات كبيرة، حتى ما يعرف ب(مكنات كشف الكذب) لا يمكن الاعتماد عليها، لأنها تعتمد على أن الكاذب تبدو عليه علامات محددة، كالقلق مثلا ولكن قد لا يبدي بعضهم أي قلق عندما يكذب، بل قد تنتابه السعادة أحيانا.

(بول اكمان) من جامعة كليفورنيا، ومن الباحثين المرموقين في مجال (السلوك اللاشفهي) والخداع، وصف مشاعر الشخص الكاذب بعبارة (بهجة الخداع)، وشبه هذا الشعور بما يحسه الشخص المتسلق لجبل، أو ما يحسه الشخص على متن الطائرة عند ارتفاعها وانخفاضها، هزة داخلية أو إثارة يحسها الشخص داخلياً.

لقد ارتقى الإنسان بفن الكذب، وأفردت له الشهور، فهناك كذبة ابريل مثلا، أخذت رواجها علىالمستوى العالمي، وما من منطقة، مدينة كانت أم قرية، إلا واشتهر من بين قاطنيها فرد أو أكثر بالكذب، والغريب أن الكذاب المشهود له بالكذب، لا تجده منبوذا في مجتمعه، بل العكس، قد تنسج حوله هالة من الظرافة تجعله محبوباً بينهم، ملحاً لمجالسهم.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد