Al Jazirah NewsPaper Friday  28/08/2009 G Issue 13483
الجمعة 07 رمضان 1430   العدد  13483

وسطية الحياء بين ضوابط السلوكيات والممارسات
اللواء الركن (م) سلامة بن هذال بن سعيدان

 

الحياء هو شعور بالخجل ينتاب الإنسان عندما يميل به الهوى أو تجنح به النفس إلى الوقوع في المحظور، وهو ناموس يضبط النفس ويهديها إلى الالتزام بما تدعوها إليه فطرتها السليمة وطبيعتها السوية، والحياء يحول بين الإنسان وبين المعاصي، ويوطِّن..

.. طبعه على طاعة الأوامر واجتناب النواهي، وإذا ما غاب الحياء ضعف الإيمان، وتهافتت النفس على ملذاتها، خارجة عن ناموس ضبطها وقانون فطرتها، إذ إن الحياء مرتبط بالعقل ومقرون بالإيمان وأينما وجد أحدهما وجد الآخر، وقد ورد في الحديث: (الحياء شعبة من الإيمان).

ويحتل الحياء مكاناً بارزاً في حياة الناس من حيث ضبط السلوكيات والممارسات والتأثير عليها، وهو من الأخلاق التي دعا إليها الدين وحث على التخلق بها لتطبيق المنهج الديني ومواجهة الواقع البشري بما يصلح حاله، ويضمن اعتداله ويرشده إلى مآله من خلال الوازع الداخلي والرقابة الذاتية، وما لذلك من مردود إيجابي على هذا الواقع الذي يهتم بإصلاح الباطن وتهذيب النفوس وسلامة النوايا، بعيداً عن مطاعن المروءة وآفات العفة، وكل ما يخدش جوهر الحياء، وينال من مظهره في السر والعلن، وقد قيل: أحيوا الحياء بمجاورة من يستحيا منه.

والحياء خلق إسلامي أصيل، وبسقوطه يتحلل الإنسان من أهم الحدود الدينية، ويخرج عن محيط القيم والمثل الدنيوية، وبالتالي يستفحل هوى نفسه، وتتغلب عليها النزعة الأمَّارة بالسوء على النحو الذي يخلع رداء الستر ويسقط المروءة، وما يعنيه ذلك من الوقوع في الشبهات والانسياق وراء المحظورات بسبب فقدان الحياء والتقلب في الأمور كيفما يشاء، وقد قال ابن مسعود إن آخر ما حُفظ من كلام النبوة هو: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت). وكما قال الشاعر:

إذا لم تخش عاقبة الليالي

ولم تستح فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خيرٌ

ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما استحيا بخير

ويبقى العود ما بقي اللحاء

ويوجد عدة ضوابط تضبط سلوكيات الإنسان السوي، وتحفظ اتجاهه على جادة الصواب وطريق الحق، وهذه الضوابط هي الدين والتقوى والضمير الحي والحياء والخوف من المساءلة والعقاب، ومهما تنازعت الإنسان هذه الضوابط وتأرجح بينها صعودا ونزولا مستوى أداء واجباته وما هو مطلوب منه أو منهي عنه في الدين والدنيا، فإنه بقدر ما يتمتع به من تقوى ويتصف به من حياء بقدر ما يؤنبه ضميره تجاه أي تقصير يحصل منه أو خطيئة يقترفها، ساتراً نفسه ومصححاً واقعه وراجعاً إلى ربه، وقد قال الشعبي: تعايش الناس زماناً بالدين والتقوى، ثم رفع ذلك فتعايشوا بالحياء والتذمم، ثم رفع ذلك فما يتعايش الناس إلا بالرغبة والرهبة، وأظنه سيجيء ما هو أشد من هذا.

والإنسان أمام بعض المؤثرات قد يضعف وازعه الديني، ويخونه ضميره وفي الوقت نفسه قد يكون في مأمن من المراقبة والمساءلة، ورغم ذلك فإن الحياء والعفة والمروءة تمنعه من الاستجابة لدواعي المغريات وارتكاب المحظورات، وهذه الفضائل الإنسانية تتوسط قوساً من الخصال الحميدة التي تجعل الإنسان ينفر طبعه وتنقبض نفسه عن كل ما هو ذميم، وشعاره ان من عفت أطرافه حسنت أوصافه، وان الملاذ الفاسدة مشوبة بالقبح ويكفي رادعاً عنها انها تنقطع والقبح يبقى، وقد قيل: المروءة استحياءُ المرء نفسه، وقد قال الشاعر:

ورب قبيحة ما حال بيني

وبين ركوبها إلا الحياء

فكان هو الدواء لها ولكن

إذا ذهب الحياء فلا دواء

وعلى الجانب الآخر فإن الإنسان إذا ما غلب عليه هواه، وعجز عن مقاومة سلطان نفسه إلى الحد الذي يفضي به إلى الانزلاق في خطيئة أو اقتراف إثماً، فإن خلق الحياء يحتم عليه أن يستر نفسه ويقلع عن ذنبه، ويحرص على إصلاح وضعه، إذ إن من لجأ إلى الله وطلب الستر منه أسبل عليه ستره، وأسدل على كنفه، وقد قيل: من كساه الحياء ثوبه ستر عن الناس عيبه، أما المجاهر الذي يكابر على ذنبه ولا يتحرج منه فإن الله يهتك ستره ويفضح أمره مقابل إصراره على الذنب والتحلل من الحياء، جاعلاً من النعمة نقمة، ومستبدلاً الخير بالشر.

وبالعودة إلى ما قاله الشعبي حول كيفية المعاملة والتعامل بين الناس واعتبار الدين هو الأساس في ترجيح كافة الخير على الشر وضمان حسن التعايش، وعندما يضعف تأثير الدين ويتلاشى دوره ويضمحل مفعوله لسبب من الأسباب، يبرز دور الحياء والتذمم، بحيث يتحول ذلك إلى صمام أمان في وجه التجاوزات والممارسات غير المسؤولة، وإذا ما اهتز الالتزام الذاتي وغاب الحياء تحت ظرف من الظروف، يأتي دور الرغبة والرهبة عن طريق البحث عن المغنم أو الهروب من المغرم واتخاذ الترهيب والترغيب سبيلا لحفظ توازن الأمور والسيطرة عليها داخل حدود الدين وستر الحياء، طمعاً في الثواب وخوفاً من العقاب.

وبروز دور الحياء حيناً واللجوء إلى العقاب حيناً آخر، لا يلغي مرجعية الدين وطغيان تأثيره على ما عداه، كما انه قلما يتم الاعتماد على أي من الحياء أو العقاب بمعزل عن الدين، ولكن في هذا الزمن الذي ابتعد فيه الناس عن الدين الصحيح وسيطر عليهم حب المادة، وتحكمت فيهم الأهواء، وتنازعتهم الملل والنحل والمذاهب المنحرفة علاوة على تأثير العولمة والفكر المستورد والتقليد الأعمى فإن كل هذه العوامل أدت إلى تراجع الدين في ضمائر الناس وبروز دور الحياء على حساب الفراغ الديني، رغم انه محسوب عليه، وأنه وصل إلى مستوى متدني من الضعف وتحول إلى خجل أكثر منه حياء، وما نتج عن هذا التحول المذموم من تعاظم الحاجة إلى الترغيب والترهيب على حساب الدين والحياء، وما نجم عن ذلك من أفول نجم القدوة الصالحة واجتناب الهدى واتباع الهوى.

ومن زاوية ثانية فإن أي تجمع بشري مهما كان حجمه ينقسم تلقائياً إلى ثلاث شرائح، وتكون الممارسة الطبيعية للسلطة وعلاقاتها بالناس محكومة بثلاث سياسات، فالشريحة الأعلى تمثل شريحة الأخيار، وتساس بالعاطف واللين في حين أن شريحة الوسط وهي شريحة الأغلبية تساس باللين والشدة لئلا تحرجهم الشدة ولا يبطرهم اللين، أما الشريحة الدنيا فهي شريحة الأشرار وتساس بالغلظة والشدة، وكل إنسان في داخل هذه الشرائح يدفعه إلى الطاعة وإنجاز ما يطلب منه من مهام أما ضمير حي يغذيه الدين ويحركه الحياء أو خوف من المساءلة والمحاسبة، فإذا ما غابت الأخيرة، فإن صاحب الضمير الحي يتقاعس عن أداء واجباته متأثراً مع مرور الأيام بما يصنعه الأشرار، وبذلك يؤثر الطالح على الصالح، وتبدأ العدوى تفعل مفعولها، والمصالح الخاصة تطغى على المصلحة العامة في ظل طغيان الضوابط السلبية على الضوابط الايجابية، وما آل إليه حال الناس من التحول إلى شبه مرتزقة نتيجة للاعتماد على عامل الترغيب والاحتكام إلى المصالح وتجاهل ما سواها.

ويكفي الحياء انه خلق الإسلام وشعبة من الإيمان ويجمع بينه وبين الكثير من القيم قاسم مشترك، فالخضوع للواجب والطاعة والانضباط والإحساس بالمسؤولية والالتزام الذاتي، كلها تنبع من ذات الإنسان ويتحكم فيها ضميره ووجدانه، ويلعب الحياء دوراً كبيراً في الاضطلاع بها والوفاء بالتزاماتها واستحقاقاتها بوصفه يعكس غريزة الطبع وطبع الفطرة، كما أن من أجمل مراتب الحياء وأعلاها منزلة أن يستحي الإنسان من نفسه، بحيث لا يعمل عملاً في السر يستحي أن يعمله في العلن، وهذه الصورة هي أبلغ وصف للمروءة وتمثل أهم معطياتها وأرقى حالاتها، وضعف الوازع الديني وتجاهل هذه القيم والتخلي عنها يفتح الباب على مصراعيه لإسقاط الحياء والتعويل على المصالح في المعاملة والتعامل سواء عن طريق الترغيب على شكل حوافز أو تبادل المنافع ذات الطابع الشخصي أو الرسمي، وبسقوط الحياء يسقط آخر خط دفاعي لمحاربة الفساد ومنع التسيب والانحلال في أي مجتمع وهذا هو موضوع المقالة التالية.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد