Al Jazirah NewsPaper Tuesday  01/09/2009 G Issue 13487
الثلاثاء 11 رمضان 1430   العدد  13487
حادثة مفصلية للفيروسات التكفيرية! (1-2)
د. عبدالله البريدي

 

حادثة الاعتداء الانتحارية الأثيمة الفاشلة التي كادت أن تنال من الأمير محمد بن نايف بن عبد العزيز مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية؛ تمثل في تقديري حدثاً مفصلياً ورسالة تصعيدية في سياق حركات التطرف والتكفير والعنف في المملكة، وقد أكدت - قبل عدة أشهر - أن (الفكر التكفيري) في غاية الخطورة،

وذلك عبر بحث علمي قدمتُه في المؤتمر الوطني الأول للأمن الفكري، والتكفير أحد المهددات الكبرى للأمن الفكري ومن ثم الأمن الوطني، وكنتُ قد نشرتُ في جريدة (الجزيرة) قبل نحو عامين أفكاراً جوهرية حول موضوع التكفير.

ومع عدم نفي وجود أجندة سياسية لحركات التطرف والتكفير والعنف، لا أرى في هذه الحادثة المفصلية أي مؤشرات واضحة تجعلنا نقوم بتحليلها في إطار (أهداف سياسية كبيرة) ُيراد تحقيقها عبر عمل إجرامي كهذا، بل إن مؤشرات الحادثة وما يحيط بها من ملابسات وظروف وسياقات فكرية تجعلنا نربطها مباشرة بملف (الفكر التكفيري)؛ أي أن تلك الحادثة تحمل (القليل من السياسة الغبية والكثير من التدين المنحرف)!

الفكر التكفيري - في رأيي - هو المدخل الرئيس لفهم حركات التطرف والعنف الموجودة في عالمنا العربي والإسلامي الذي يعاني من اضطرابات فكرية وانحراف مخيف في مسائل التكفير، من خلال تلبس فئة من الناس بالتكفير المنحرف أو الباطل، الذي يعد منطلقاً رئيساً لكثير من حركات وجماعات التطرف والتكفير والعنف وجرائمها البشعة قتلاً للأنفس المعصومة، مسلمة كانت أو غير مسلمة، وتدميراً للمباني والمنشآت والمصالح والقدرات الوطنية، وفق إطار فكري ينبثق من (فهم خاطئ) ل (أفكار صحيحة) أو (أفكار خاطئة) ضمن مفردات المنظومة الدينية للفئات المتورطة بالتكفير وما قد يترتب عليه من اتجاهات وتصرفات خطرة. وتوصلت في ذلك البحث إلى بناء نموذج (تشخيصي) لظاهرة التكفير بجانب نتائج أخرى أحسب أنها مهمة، ولعلي أجمل بعضها في الآتي:

هناك أربعة أنماط من الشخصيات حيال مسألة التكفير، أخطرها شخصيات (التكفير الناقل)؛ والتكفير الناقل يجسد الحالة التي لا يكون فيها (الفيروس التكفيري) نشطاً فحسب بل يكون ناقلاً للعدوى التكفيرية للآخرين، وهنا الخطورة الكبرى، ولا سيما أن التكفير الناقل قد يكون تكفيراً شبه شمولي، فقد يشمل الحكام والعلماء والمثقفين والكتاب والعسكريين ونحوهم. ويمتاز أصحاب التكفير الناقل بأن لديهم قدرات فكرية هائلة وكاريزما شخصية تؤهلهم لأن يختاروا بنجاح الوسط الذي ينشّطون فيه فيروساتهم التكفيرية، مع استعدادهم النفسي لخوض عشرات المحاولات والتجارب، سواء بشكل شفهي مباشر أو بوسائط كتابية أو إلكترونية أو إعلامية، كما يتصفون بتشددهم المطلق في الجوانب العقدية والفقهية والسلوكية.

ونمط الشخصية الثاني هو من نوع (التكفير الفاعل)؛ والتكفير الفاعل يعكس الحالة التي يحمل فيها الإنسان فيروساً تكفيرياً نشطاً يصيبه بالداء فتظهر أعراضه الفكرية والنفسية عليه، وعادة ما يكون تكفيراً جزئياً يتوجه إلى فئة محددة كبعض المثقفين والكتاب والمسؤولين الكبار، وعلى الرغم من أن هذا الفيروس التكفيري نشط إلا أنه غير معد في معظم حالاته، فهو لا ينتقل إلى الآخرين؛ نظراً لأن صاحبه لا يتوافر في العادة على قدرات فكرية ولا كاريزما شخصية تمكّنه من التأثير الناجح على من حوله في مسائل التكفير وأحكامه التطبيقية على الفئة التي يكفرها. ويتسم صاحب التكفير الفاعل بدرجة كبيرة من الميل النفسي للتشدد في الجوانب العقدية والفقهية والسلوكية التي قد تكون مصحوبة بشيء من الانعزال.

و(التكفير الخامل) هو ثالث الأنماط للشخصيات التفكيرية، وهو التكفير الذي يستبطنه الإنسان داخلياً أو لا شعورياً ولا يجرؤ نفسياً ولا فكرياً على أن يظهره على سطح شعوره فضلاً عن إظهاره للآخرين، بل إن صاحبه قد لا يشعر بوجوده أصلاً، ويعني هذا أنه تكفير مبطّن يقبع في اللاشعور السحيق، ومبعث الإصابة به الميل النفسي للتشدد مصحوباً بفهم مغلوط أو منقوص لبعض النصوص الشرعية وعدم القدرة على الجمع بين الأدلة في إطار تكاملي، يعضد بعضها بعضاً، تنظيراً وتطبيقاً، وقد يتكئ على مجموعة صحيحة من النصوص الشرعية (قرآناً وسنة) ولكنه يفشل في تحقيق مناط تلك النصوص، وقد يظل هذا التكفير كامناً في اللاشعور مقتصراً على اتجاهات سلبية دفينة حيال بعض القضايا والمسائل أو الشخصيات. هو شبيه بمن يحمل (فيروساً خاملاً)، أو كامناً من دون الإصابة به أو ظهور أعراضه، ولكن ثمة خطورة محتملة وذلك باحتمالية تنشيط هذا الفيروس التكفيري (الخامل) من جراء عوامل محرضة أو محفزة ولا سيما بوجود الفئة الأكثر تأثيراً وأعني بهم أصحاب (التكفير الناقل). وبدهي أن من يتلبس بذلك اللون من التكفير المبطّن أو الخامل لا يكون قادرا على حمله إلى الآخرين، وهذا لا يعني أنه لا ينقل إليهم قدرا أو آخر من اليأس النفسي أو التشويش الفكري.

أما النمط الرابع من الشخصيات فهي (الحالة السوية)؛ وتعكس تلك الحالة الوضع المفترض أو الصحيح، أي أنه يصوّر الفئة التي تتعامل مع التكفير على أنه حكم شرعي في ضوء ضوابط منهجية محددة، وهو يشمل الفئة العالمة بتلك الضوابط بشكل دقيق وتفصيلي، وتلك الفئة التي تتفهمها بشكل عام، أي تلك التي لا تدرك تفاصيل تلك الضوابط، ولكنها تؤمن بأن التكفير مسألة عقدية خطرة لا يجوز الخوض فيها إلا عبر القنوات الشرعية والقضائية المختصة. وللحديث بقية.



Beraidi2@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد