Al Jazirah NewsPaper Wednesday  09/09/2009 G Issue 13495
الاربعاء 19 رمضان 1430   العدد  13495
لما هو آتٍ
يوم العين..!!
د. خيرية إبراهيم السقاف

 

نعود لكراسة البوح، أقلب صفحاتها فأجدك صغيرتي تملئين ورقاتها بكثير مما يلفت للتفكير، ويحرض للإيحاء، في منحى منها صوتكِ حين كنتِ كلما أذن دخول وقت الصلاة تسألين: كيف عرف المؤذن أنّ هذا وقت الصلاة؟ حتى تلك الحيرة التي ارتسمت كثيراً على محياكِ حين كان يؤذن للصبح في رمضان فتواصلين شرب الماء وأنتِ تلحين على أنّ الصبح لم يتبسم لك ضوؤه بعد، وكثيراً ما تحدثنا حتى أدركتِ أنّ هناك خيطاً أبيضَ وآخر أسودَ يفصلان بين حدّي المسموح والممنوع، أي المباح فعله في ليل رمضان قبل أن يدهمه خيط صبح يوم آخر، وبين هذا الخيط الذي لا يبيح..

تذكّرت أن أقلب الصفحات كي أستعيد حديثاً ماهراً كان منكِ كي تقنعي بما لم تكوني قد أدركتِه حتى فعلتِ، يومها قلتُ لكِ: ليست كل الحدود مرئية بوضوح، فحدود النور والظلام ملموسة وهناك حدود محسوسة، ما لا ترينه له أسباب رؤيته التي حتماً ستتعرفينها يوماً، لكن هناك حدود أنتِ تملكينها ومن ثم تستطيعين أن تتعرفي حدودها، فالتهمتني أسئلة وأمطرتني قيوداً كي لا أنهض من مقعدي قبل أن أحدثكِ بها، واتفقنا يومها أنّ عينيك يمكن أن تكون لما تراه حدوداً كالخيط الفاصل بين الليل والصبح، وكذا أذنيكِ، ومن ثم بقية ما في تكوينك ِ من الجوارح والمدارك والشعور،.. لم ينفض مجلسنا ذلك الفجر إلاّ بعد أن وعدتني بأن تسجلي كل ما تقع عليه عينك ذلك اليوم وتضعيه في إحدى الخانتين، خانة ما يمكن وما لا يمكن أن تتقبليه،.. ذلك اليوم جئتني بدفترك وفي خانتيه ما وجدته في هذه الكراسة، كتبتِ يا صغيرتي في خانة (لا أقبل): رأت عيني أب زميلتي يسحبها من كتفها بقوة عند باب المدرسة ليدخلها باكية فيها، وكتبتِ: رأت عيني مدرسة الرياضيات تبصق في الساحة وهي متجهة لمكتب المديرة، ورأت عيني زميلة في المدرسة تضع طعامها في وعاء النفايات، أما ما كتبته في خانة

(ما أقبل) فمنه: رأت عيني أبي يضع طعاماً وماء لقطة مريضة عند عربتنا بعد أن حملها لداخل البيت، وكتبتِ: رأت عيني سائقاً يتوقف على طرف طريقنا للمدرسة ويهب عجوزاً على الرصيف نقوداً،..

وأذكر عندما ناقشتك في الحدين بين ما رأيتِ فقبلتِ، ورأيتِ فلم تقبلي قلتِ: تألمت لبكاء زميلتي من طريقة تعامل أبيها، وأنكرت سلوك المعلمة وهي مارة، ولم يعجبني أن ترمى النعمة في النفاية وهناك عاملات فقيرات في المدرسة، بعكس ما رأيت فقبلت...

من هنا حددنا يوماً في الأسبوع صغيرتي لمناقشة دفترك بخانتيه، بعد أن أضفنا إليه: ما سمعت، وما شعرت، ثم بعدها وضعنا في الخانتين: ما فعلت وقلت فرضيت عنه، وما فعلت وقلت ولم أرض عنه...

يوم العين والأذن واللسان والأداء كانت فكرته قد انبثقت بيننا من ذلك الفجر الذي أصررت فيه على مواصلة شرب الماء بعد أذان يوم رمضاني لأنك لم تشاهدي علامة نور....

الآن، كل الصغار يمكنهم أن يعلموا أن ليست كل الخيوط بين بياض وسواد متاحة لرؤية مباشرة.. لكن حدود المقبول وغيره تتكون لها ضوابط.. هي معقد الخير والصدق والصواب، أو التجاوز والخطأ والتهاون... ولكل حد إما مثوباته أو عقوباته.. حسب نتائجه ومنتهاه..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد