المِنّة خلق رذيل، ومبدأ سفيل، وداء وبيل، تنفر منه الطباع السليمة، وتنبو عنه النفوس الكريمة، صاحبه دني، ومرتكبه شقي، كبيرة من الكبائر، وقبيحه من الزواجر! قال الله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (263) سورة البقرة.
|
نعم من أحسن من الله قيلا، من أصدق من الله حديثا. فهذا والله كلام لا تدانيه فصاحة، ولا تباريه بلاغة! علماً بأن المنة ليست كما يتبادر للذهن في المال فقط بل تشمل المنة بالجاه والمنصب وغيرها.
|
والمَنُّ: هو ذكر النعمة على معنى التعديد لها، والتقريع بها. وعرفها بعض العلماء: انها التحديث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المُعطى فيؤذيه (القرطبي ج1- 249).
|
|
|
منن الرجال على القلو ب أشدُّ من وقع الأسنّه!
|
والمنُّ من الله إفضال وتذكير، أما من الناس فهو إذلال وتعبير وتكدير{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
|
يقول العلماء: إن المنَّ من كبائر الذنوب، وقد توعد الله سبحانه ورسوله المنان بزواجر ترتعد لها الفرائص، وتصف مرتكبها بأنه مخذول خاسر بائس! قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (264) سورة البقرة.
|
فجمهور العلماء: على أن الصدقة التي يعلم الله من صاحبها المن أو الأذى أنها لا تُقبل، لأن ثواب الصدقة لا يفي بخطيئة وإثم المن والأذى. وقوله لا يقدرون على شيء مما كسبوا: أي لا يقدرون لا على الانتفاع ولا على الإرجاع. والعرب تصنف المُعطين إلى ثلاثة أضرب: فمن يُعطي مع المن فهو ذا يد سوداء، ومن يعطي بلا سؤال فهو ذا يد بيضاء، ومن يعطي بالسؤال فهو ذا يد خضراء.
|
أما تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من مغبة المنة فغاية في البشاعة والشناعة والويل والثبور! فقد جاء في صحيح الخير عن سيد البشر قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم!! قال أبو ذر رضي الله عنه: خابوا وخسروا منهم يا رسول الله: قال المسبُل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) رواه مسلم. فليس بعد هذا البيان بيان، أو تخاذل ونسيان فشرحي له لا يزيده إلا غموضاً!!
|
وجاء عند النسائي من حديث ابن عباس أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة مدمن خمر، وعاق لوالديه، ومنان).
|
|
لنقل الصخر من قمم الجبال |
أحب إليّ من منن الرجال! |
إن التمنن على عباد الله إذلال لهم، وكسر لنفوسهم، واستعباد لحريتهم وإن كانت المصالح العامة اليوم فيها ما فيها من أنواع الطلب الذي يشوبه بعض المنِّ والأذى لكنَّ بعض الناسِ هداهم الله نزع الحياء من قلوبهم فلم يَعُد في أديم وجوههم مزعة لحم فتراهم يطلبون الناس تكثرا وترفا، أو يذلون أنفسهم في مطالب وحاجات كمالية هم في غِنى عنها!! فالمنة اليوم ليست حكراً على المال فحسب بل هناك من يَمُنُ بجاهه، ومقامه، ومكانته وفي كل شر!!
|
فإن إراقة ماء الحياة تهون لإراقة ماء المُحيَا!
|
قال شيخ الإسلام رحمه الله: أعط من شئت فأنت أميره، واستغنِ عمّن شئتَ فأنت نظيره، واطلب من شئت فأنت أسيره!!
|
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يسألُ الناس ويتكففهم حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مُزعة لحم)، لكننا اليوم اختلط علينا الحابلُ بالنابل، اختلط الصادق المحتاج، بالكاذب المحتال وأفسدَ بعضهم على بعض!!
|
وفي قول الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (262) سورة البقرة.
|
قوله: فلا خوف عليهم: فيما يُستقبل من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما سلف من دنياهم التي أنفقوها. يقول العلماء: ينبغي للمُعطي أن يستشعر أن للمعطي عليه منة وفضل لأنه هو الذي منحه فرصة لكسب الأجر والثواب!!
|
وقوله تعالى: لا يُتْبعون: فيه أن المنَّ حتى لو تأخر وتراخى عن أداء الصدقة وطال زمنه فهو مُردٍ بصاحبه ولاحقه إثمه!!
|
وقال ابن القيم رحمه الله: المن نوعان: من بقلبه من غير تصريح بلسانه، ومن آخر: بلسانه فيه تعدِّ على مَنْ أحسنَ إليه، وأنه ذو فضل عليه، وأنه طوَّق عنقه كقوله: أما أعطيك كذا وكذا...) التفسير القيم/ لابن القيم.
|
كان السلف يقولون: إذا أعطيت رجلاً عطيةً ورأيت أن سلامك عليه يُثقل عليه فَكَنِّ (أي لا تصرح بسلامك عليه. وقالوا: (إذا اصطنعتم صنيعةً فانسوها، وإذا أسدي إليكم صنيعة فاشكروها!!
|
وإن امرأً أهدى إليّ هدية |
وذكَّرَنيها مرة لبخيل!! |
وإن شئت أن تعظم العطيةُ في عين آخذها فتصاغرها، والعكس بالعكس. وقيل صنوان متشابهان: من منح سائله ومن، أو منعَ نائله وظن!!
|
وأنت أيضاً أيها المستجدي نقول لك: حسبك فبئس الكسب كسبك: فلا والله يخلق الديباجة مثل التعرض للحاجة!
|
وأختم حديثي بسؤال وجه لشاعر الفقهاء، وفقيه الشعراء الإمام الشافعي رحمه الله عن مدى قبوله لمنة الناس عليه فقال:
|
لقلع ضرس، وضرب حبس |
ونزع نفس، ورد أمسِ |
وقر برد، وقود فرد |
ودبغ جلد بغير شمسِ |
وأكل ضب، وصيد دبٍ |
وصرف حبٍ بأرض خرسِ |
ونفخ نار، وحمل عار |
وبيع دار بربع فلسِ |
وبيع خف وعدم إلفٍ |
وضرب إلفٍ بحبل قَلسِ |
أهون من وقفة الحرِّ |
يرجو نوالاً ببابِ نحسِ |
اللهم سدد قلوبنا للرشاد كي لا نمُن فنستكثر الزاد، وصلى الله وسلم على خير العباد.
|
- الموجه الشرعي في القوات المسلحة |
|