Al Jazirah NewsPaper Wednesday  16/09/2009 G Issue 13502
الاربعاء 26 رمضان 1430   العدد  13502

الشيخ عبد المالك الطرابلسي وبداية تعليمي في ذاكرتي
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف

 

وإذا أحب الله يوماً عبده

ألقى عليه محبة في الناس

يمر بالإنسان في مراحل عمره عقود من الزمن يفضل بعضها بعضاً وتكون ذكراها الجميلة أعمق وأبقى بين جوانحه وشعاب نفسه.. يمررها بخواطره في خلواته تلذذاً وتذكراً لأيام ربيع حياته، فأجمل تلك العقود - في نظري - العقد الثاني بعد الأول، فلقد عنت لي الدراسة في دار التوحيد بالطائف عام 1371هـ، وذلك لعدم وجود مدارس بالرياض مماثلة لها..، وأنا أتلقى مبادئ في العلم على يد سماحة مفتي الديار السعودية - آنذاك - الشيخ محمد بن إبراهيم، وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف بعد صلاة الفجر مباشرة بمسجد الشيخ محمد، وعلى الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد القاضي بمحكمة الرياض بجامع الإمام تركي بعد صلاة المغرب، فسرت على بركة الله صوب مكة المكرمة فتقدمت بطلب إلى فضيلة مدير المعارف الشيخ الفاضل محمد بن عبد العزيز المانع للالتحاق بدار التوحيد بالطائف، فسألني عما يؤهلني للالتحاق بالدار فقلت أحفظ من المتون: كتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية، وثلاثة الأصول حفظاً كاملاً، وجزءاً من متن كشف الشبهات، وفي النحو مقدمة الأجرومية لأن دراستنا على المشايخ في الرياض تعتمد على الحفظ والمشافهة وقد قيل: (فاحفظ فكل حافظ إمام).

فسر من ذلك ثم أحالني إلى الأستاذ محمد صالح الخزامي رئيس قسم التفتيش لمقابلتي فأعطاني هذا المثال لأعربه وهو: (المسيئون إن يقتلوا أخاك يعاقبوا..) فأعانني المولى على الإجابة الصحيحة على ما فيه من الصعوبة مع رداءة خطي والصعوبة تكمن في جواب الشرط، وهو إعراب الواو أي بحذف النون والواو نائب فاعل، فقال لي بعد ما سلمت ورقة الإجابة: غداً راجع فضيلة الشيخ في مكتبه الواقع على حافة المسعى من الناحية الشرقية الجنوبية، وفي الصباح الباكر اتجهت نحو الشيخ، ويعلم الله أني حينما دخلت مكتب فضيلته نهض من كرسيه واقفاً: ناجح يا ابني.. ناجح يا ابني فكدت أطير فرحاً، وهذا يدل على تقديره وحبه لمن ينتسب إلى الدار ثم كتب رسالة خطية بتاريخ 17-12-1370هـ لمدير الدار الشيخ عبد المالك عبد القادر طرابلسي الذي نحن بصدد ذكره، والتنويه بمحاسنه ومآثره معنا معشر طلاب الدار - آنذاك - فقد قابلني بكل لطف ورحابة صدر، ثم كلف أحد المستخدمين بإرشادي إلى القسم الداخلي - المهجع - المخصص لسكن الطلبة المغتربين أمثالنا بعد أن أعطاني - رحمه الله - بعض الإرشادات والتوجيهات الأبوية باختيار الأصدقاء الأخيار، وصيانة الغربة بالتحلي بالأخلاق العالية، والمثابرة في اقتناص العلوم المفيدة:

صن النفس وأحملها على ما يزينها

تعش سالماً والقول فيك جميل

قائلاً: إن الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - قد اختار مقر الدار هنا بالطائف لأجل صفاء الذهن والابتعاد عن مشاغل الأهل في الفلاحة أو التجارة مثلاً، ولاعتدال جوه اللطيف الذي عناه الشاعر بقوله:

بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى

وما أحسن المصطاف والمتربعا

فهو يعين على النشاط والحركة في التحصيل العلمي، فالملك يريد من تأسيسها أن تخرج العلماء والقضاة، والخطباء في المساجد، وفي سائر المناسبات الجميلة، وفي تسنم الأعمال والمناصب الحكومية وغير ذلك من حاجة الوطن لأمثالهم، على حين أن مدارس تحضير البعثات ومقرها مكة المكرمة يقصد منها تخريج أعداد من الشباب للمستقبل يعملون في ميادين أخرى، مثل الطب والهندسة، والتخصصات في بعض اللغات والترجمة والأعمال الدبلوماسية والسياسية، فالملك عبد العزيز رحب الأفق ينظر إلى المستقبل بنظرات صائبة.

فعلم ما استطعت لعل جيلا

سيأتي يحدث العجب العجابا

فالحقيقة أن شيخنا على جانب كبير من الخلق الرفيع يزينه التواضع الجم مع الصغير والكبير، فأذكر جيداً أنه حينما رأى رداءة خطي وخط الزميل عبد العزيز بن عبد الله السمحان - رحمه الله - أخذ ينتهز فرصة حصة الإملاء فيأخذنا إلى سطح مبنى المدرسة فيملي علينا بعض القطع الأدبية والقصص القصيرة علنا نستطيع مسايرة زملائنا أثناء إملاء مدرس الفصل.. وفي أثناء إملائه يقول: ترى الراء والدال والواو ما يربط بأطرافها كلام..!

يرشدنا - رحمه الله - كأننا في روضة أطفال لعدم معرفتنا بقواعد الإملاء والخط، فهذا منتهى إخلاصه وعطفه علينا.. لأن تلقينا العلم على أيدي المشايخ يعتمد على المشافهة والحفظ - فجزاه الله عنا خير الجزاء وأسبغ عليه أطايب نعمه - كما لا أنسى أفضال الطالب - آنذاك - معالي الشيخ عبد العزيز بن محمد عبد المنعم الذي كان يساعدني على تحسين الخط حيث يكتب في (البوك) الذي ما زلت محتفظاً به سطراً بخطه الجميل فأكرر كتابته حتى نهاية آخر سطر، فهذه من الذكريات الجميلة مع شيخنا يطول أمد مكثها في صدورنا وبين جوانحنا، فالمجال لا يمكّننا من سرد سيرته العطرة كلها. والأعمال التربوية الجليلة كثيرة العدد التي زاولها متنقلاً في كثير من المدن والمناطق الأخرى، فقد ولد الشيخ عبد المالك عبد القادر طرابلسي في 1322هـ في طرابلس الغرب، وعندما أنهى المرحلة المتوسطة انتقل إلى جزيرة العرب لإكمال تعليمه، فكانت قبلته مكة المكرمة والمدينة المنورة حتى تتلمذ على يد بعض المشايخ المحليين مثل: الشيخ عمر حمدان، الشيخ محمد العربي، والشيخ صالح التونسي، والشيخ المربي عبدالله حمدوه، والشيخ الطيب المراكشي، وغير هؤلاء الفضلاء، وبعد ذلك أتيحت له معايشة بداية النهضة التعيلمية وشارك فيها وذلك من خلال عمله كمعلم ثم مدير لمدرسة أبها الابتدائية حيث باشر مهمته في 5-10- 1355هـ ومكث عشر سنوات متواصلة حرص خلالها على فتح مزيد من المدارس في منطقة عسير بدعم شخصي من أميرها في ذلك الوقت تركي بن أحمد السديري وتم له ذلك في عام 1358هـ، وبعد فترة من الزمن عمل مديراً لمدرسة المربع بالرياض عام 1364هـ، وفي عام 1367هـ عين معتمداً للمعارف بنجد مع قيامه بإدارة مدرسة المربع إلى عام 1368هـ، وفي عام 1371هـ عين مديراً لدار التوحيد بالطائف، بعدها استمر متنقلاً في مواقع أخرى حتى أنهى مشوار حياته طيب الذكر.. وهكذا أمضى الشيخ عبد المالك الطرابلسي حياة طويلة قاربت نصف قرن من الزمان. قضاها في خدمة العلم والمعرفة، وقد استقيت شطراً من هذه المعلومات من الكتاب الذي ألفه الأستاذ الفاضل الدكتور عبدالله بن محمد الزيد مدير التعليم بمنطقة جدة سابقاً (من روادنا التربويين المعاصرين) عام 1404هـ، وأرجو أن لا يكون هذا الاختصار مخلاً خللاً كثيراً، وعلى أي حال فإن الشيخ عبد المالك مرب فاضل يعتبر من أبرز رجال التربية والتعليم علماً وحنكة وأدباً رفيعاً، وطول خدمة..، فالأيام التي قضيتها تحت رعايته وإدارته بالطائف معه ومع مشايخي الأجلاء بالرياض، ومعلمي مشايخ الأزهر الفضلاء الذين أضاءوا أفكارنا علماً وأدباً هي أحلى أيام حياتي وأجمل ذكرياتي معه ومعهم جميعاً تغمدهم الله بواسع رحمته ومغفرته.

حريملاء - فاكس 015260538


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد