Al Jazirah NewsPaper Friday  25/09/2009 G Issue 13511
الجمعة 06 شوال 1430   العدد  13511
نوازع
الجوال الضائع
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

ودعنا رمضان بعد أن عشنا أيامه ولياليه الجميلة وعبقنا من نسمات روحانيته الجليلة، وارتوينا من مسراته، وطعمنا من مبراته، ووجدنا فيه ينبوعاً لا ينضب من خير الدنيا والآخرة، صيامه عبادة وصحة، وقيامه عبادة وطمأنينة، وقراءة القرآن فيه عبادة وتدبر، فيا له من شهر كريم، وموسم عظيم، يجتمع فيه الأحباب، وتتآلف فيه الألباب، وتحل فيه السعادة وتخبو في أيامه ولياليه الكآبة، بإذن البارئ عزَّ وجلَّ.

تكثر فيه الطرائف والملح، والمبرات والمسرات، فما منا إلا وقد وقعت له فيه طرفة أو حادثة مشوقة. وسأبوح بما وقع لي من طرائف، ربما تكون من تسالي العيد للقارئ الكريم.

ذات يوم من أيام رمضان الكريم كنت جالساً في مجلس كريم مع مَن اتصفوا بطيب المعشر ودماثة الخُلق، وحسن اللفظ، ومجانبة (العمض)، وإذا بشاب نبيل حباه الله محبة الناس، واكتسى بثوب الإيناس؛ فكان له أجمل لباس، يناشد الحضور البحث عن جوال له فُقد، ولم يعثر عليه؛ فسارع ومعه جمع من الأصحاب تفرقوا في كل مِرآب، وفتحوا كل باب، لعلهم يجدون الضالة، ففيها أرقام الهواتف كلها، ومن الرسائل جُلها، لكن دون جدوى، ومع ذلك فاليأس لم يطرق بابه؛ فظل مقتنعاً بوجوده في دائرة ضيقة من المجلس، واستمر الحال ويقينه يزداد أن ضياع جواله محال، وحاول الاتصال لعل نغمته تتردد فيسارع إلى حيث يكون الصوت؛ فلم يسمع صوتاً ولم ير هاتفاً. وخوفاً من أن يهن ويضعف أصحابه فقد جعل (جُعلاً) - والجُعل بمفهومنا الحاضر مكافأة مالية -، وكان الجعل ثميناً؛ فتسابق الأصحاب واجتهدوا في البحث، وكل منهم يحدِّث نفسه لعل (الجُعل) يكون من نصيبه، فيُرد الجوال إلى مالكه الأثير لديه، حتى أنهم وطئوا مواقع لم يكن من المنطق أن يصل إليها الجوال إلا إذا كان له جناحان يطير بهما كما تطير الصقور، وكما هي الحال في مثل هذه الأحوال أخذت الآراء تطرح، والنقاش يحتدم، فمن قائل: ربما.. ومن قائل: لعل...

في خضم هذا البحث وغرابة الموقف طرح الشاب الكريم صاحب الجوال فكرة إدخال كل من الحضور يده في جيبه بعد أن تذكر أنه قد وضع جواله على إحدى الطاولات، فربما أن أحداً أدخله في جيبه دون أن يدري؛ فأدخل الجميع أيديهم لعل وعسى، وكنت ممن أدخل يديه في جيبيه حتى أتأكد ثم أؤكد أنه ليس في جيبي، فإذا بأطراف أناملي تقع على جوال في كل جيب، لكنني لم أرَ في ذلك من بأس؛ فلدي جوالان مختلفا الملمس والحجم والنوع، أحملهما أينما كنت، لكن الغريب في الأمر أنني رفعت بسرعة يديَّ الاثنتين وبهما جوالان متطابقان في الملمس والحجم والنوع؛ فاعتراني العجب، وقلت: يا إلهي.. هل انقلب أحد الجوالين إلى آخر مماثلاً لما معي؟! ونظرت أمامي على الطاولة فإذا بي أنظر إلى جوالي الحقيقي أمام ناظري؛ فأدركت أنني قد أخذت جوال غيري دون إدراك مني ووضعته في جيبي معتقداً أنه جوالي الذي اعتدت على حمله، وصحت فرحاً ضاحكاً بأعلى صوتي: هذا هو جوالك أيها الكريم قد قبع برهة من الزمن في جيبي دون علم مني؛ فأطلق الشاب ابتسامته المعهودة وأخذ جواله بدماثة خلقه المشهودة، والجميع يضحك على طرافة الموقف وغرابة الحدث ولم ينل الجُعل نائل، كما أنني حتى يومي هذا لا أعلم كيف أقفل الجوال ولماذا، وقلت: لعلني سمعته يرن فأقفلته بيدي دون أن أخرجه؛ لكوني منهمكاً في أمر لا يسمح الموقف معه بالرد على الجوال.

هذه الطرفة، مع بساطتها، تبين أن الابتعاد عن اليأس أجدى، وأن الإنسان إذا انشغل في أمر فقد يعمل من الأعمال غير الإرادية ما لا يتناسب مع المنطق، كما بيّن هذا الموقف أن الأناة والحلم ديدن هذا الشاب النبيل؛ فابتسامته لم تفارقه في مثل هذا الموقف الذي قد يمتعض البعض منه ويبدو التجهم على محياه.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد