Al Jazirah NewsPaper Friday  25/09/2009 G Issue 13511
الجمعة 06 شوال 1430   العدد  13511
تخفيف الآثار السلبية للأزمة العالمية على الاقتصاد السعودي
محمد سليمان العنقري

 

رغم أن الأزمة المالية العالمية سجلت أكبر تدخل حكومي على مر أزمات العالم الاقتصادية سابقا، إلا أن تحرك المملكة كان مختلفا تماما عن غيرها من الدول فهو لم يكن وليد اللحظة بل جرى التخطيط لتطوير الاقتصاد المحلي منذ سنوات طويلة انطلاقا من القاعدة، فبحكم تجارب المملكة السابقة مع تقلبات أسعار النفط وحاجتها للسيطرة لتقليل أثر هذه التغيرات على ميزانياتها وخططها الاقتصادية والتنموية بدأت منذ ارتفاع أسعار النفط مع بداية العقد الحالي بترتيب أوراقها وأولوياتها بكل هدوء، فاستطاعت أن تخفض الدين العام من 660 مليار ريال قبل قرابة خمس سنوات، ما يعني (60%) من الناتج الوطني حتى وصلت بنهاية العام 2008م إلى (18%) فقط بما يوازي 223 مليار ريال فقط مع القدرة على سداد كامل المديونية، ولكن تبقى مثل هذه الإجراءات تخضع لسياسة عرض النقود وحاجة السوق لها لأن جل مديونية المملكة كانت داخلية، أما من ناحية بناء الاحتياطات فقد وصلت إلى أكثر من 1600 مليار ريال، وإذا ما نظرنا إلى الآلية التي تمت خلال السنوات السابقة نجد أنها كانت تغطي نفقات الميزانيات مع ارتفاع متدرج بوتيرة الإنفاق الحكومي، بالإضافة إلى سداد الدين العام ومع كل هذا ارتفعت الاحتياطات بشكل كبير جدا من 179 مليار قرابة عشرة أضعاف هذا الرقم خلال مدة قياسية لا تتعدى عقدا من الزمان، وبهذه المبالغ الضخمة هدفت المملكة إلى إلغاء أثر تقلب أسعار النفط على ميزانيتها السنوية والاستفادة من الاحتياطي لتغطية أي عجز يحدث دون الحاجة للاقتراض بخلاف الاستفادة من هذه المبالغ بأكبر عملية بناء للإنسان والبنى التحتية منذ طفرة السبعينات من القرن الماضي بل أنها تفوقها بكثير لأنها تأتي في مرحلة تطورت فيها المملكة كثيرا وزاد عدد السكان والمتعلمين ما دعا الكثير لأن يسميها طفرة ترقي وبناء على جملة هذه القواعد التي عملت عليها حكومة المملكة منذ سنوات بتوجيهات من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وأثمرت ببناء قوة اقتصادية مهمة ليس على مستوى المنطقة وحسب، بل عالميا من خلال دورها الفاعل بمجموعة العشرين التي تتولى الآن إدارة الأزمة المالية العالمية وسبل الخروج منها.

فقد دأبت المملكة منذ بداية الأزمة على الاستفادة منها من خلال تسريع وتيرة إنجاز المشاريع الجبارة بتكاليف أقل بعد أن ارتفعت المواد الأولية وغيرها بشكل جنوني خلال الأعوام السابقة، هذا بخلاف رفع مستوى الناتج الوطني اعتمادا على القطاع الخاص بمعنى تعويض التراجع بإيرادات النفط بعد هبوط أسعاره الكبير من 147 إلى 33 واستقراره حاليا بقرب 70 دولارا لكي تخفف من أثر الأزمة على النشاط التجاري للقطاع الخاص المحلي، وبالتالي عندما نستعرض أهم الخطوات التي اتخذت على سياقين وهما السياسة النقدية والمالية:

تطورات السياسة النقدية

قامت مؤسسة النقد منذ بداية الأزمة وقرب ظهور أثرها في منطقتنا بخفض أسعار الفائدة من مستويات 5.25 للريبو وكذلك للريبو العكسي إلى أن وصلت حاليا دون (1%) عند 0.5 نقطة لكي تحفز سوق الائتمان بشكل كبير تغطي معه حاجة القطاع الخاص للتمويل بعد توقف العديد من البنوك العالمية والإقليمية عن الإقراض نتيجة لتبعات الأزمة التي أفلست معها بنوك كبيرة عالميا هذا بخلاف ضخ الأموال بالبنوك، لكي تستطيع التوسع بالإقراض فقد ارتفعت الودائع بالمصارف بشكل كبير خلال عامي 2008 و2009م لتصل إلى ما يقارب تريليون ريال حاليا، من خلال ضخ حكومي واضح كذلك قامت المؤسسة بتخفيض الاحتياطي النظامي للبنوك من مستوى (13%) إلى (7%) حاليا مضيفة اكثر من 30 مليارا للبنوك المحلية، ما يسهم برفع مستوى السيولة لديها وتستطيع أن تلبي حاجة عملائها من القروض الشخصية والاستثمارية، ورغم أن الأسواق لم تستجب إلى الآن كما تريد المؤسسة إلا أن الثقة الكبيرة بإمكانيات المؤسسة وقدرتها على اتخاذ ما يلزم من خطوات، خصوصا أنها بدأت بسحب بعض احتياطاتها لتمويل الإنفاق الحكومي أعطى الكثير من الثقة حاليا مما يعني توقع انعكاس ذلك خلال الربع الرابع على ابعد تقدير وعودة نشاط سوق الائتمان إلى سابق عهده خصوصا من ناحية التكلفة، لأنه لا يوجد مشكلة سيولة حاليا، ولعل من أبرز الخطوات التي اتخذت ببداية اشتداد مرحل الأزمة خلال النصف الثاني من العام الفائت 2008م هو قرار المملكة بضمان الودائع المصرفية لدى البنوك العاملة فيها وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - باتخاذ كل الإجراءات اللازمة لتعزيز الثقة باقتصاد المملكة ومؤسساتها الاقتصادية، ومن الإجراءات التي اتخذت سابقا أن مؤسسة النقد تشددت في رقابتها على البنوك السعودية بتركيز إقراضها للداخل وكذلك عدم الدخول باستثمارات خطرة، ما حمى رؤوس أموال البنوك بخلاف إلزام البنوك بتطبيق معايير (بازل) بكل درجاتها تباعا منذ أعوام، ما وضع البنوك والمصارف المحلية في موقع آمن جدا قياسا بغيرها على المستوى الخليجي والعالمي، ومن الجدير ذكره انه لا يوجد أحد لم يتأثر بالأزمة ولكن القياس بالنهاية حول نسبة التعرض للآثار السلبية قياسا بحقوق المساهمين ورأس المال ويبقى للمؤسسة دور بارز في الرقابة على البنوك منذ عقود ويسجل لها انه لم يفلس أي مصرف محلي وتم التدخل دائما لحماية النظام المالي بالوقت والحجم المناسب، أما على صعيد إقراض المشاريع المهمة والكبيرة وكذلك المشاريع الصغيرة، فقد تم اتخاذ عدة خطوات من أهمها رفع سقف الإقراض من قبل صندوق الاستثمارات العامة المعني بإقراض الشركات التي يستثمر بها إلى 6 مليارات ريال من 1.5 مليار ريال سابقا وبنسبة 40 بالمائة من حجم أي قرض تحفيزا للبنوك من جهة للاستفادة من الفرص المتاحة والمدعومة حكوميا ومن جهة تلبية حاجة الشركات الإستراتيجية بالمملكة من المال لإنجاز مشاريعها وفق احتياجاتها وخططها المعدة لها، أما على صعيد المشاريع الصغيرة فقد تم دعمها من قبل صناديق حكومية عديدة وبنك التسليف أيضاً، سواء بالقرض المباشر منه أو بضمان (75%) للقرض أمام المصارف المحلية، ما أعطى دفعة كبيرة للمشاريع الصغيرة كي تتحقق خططها وتنجز مشاريعها وتعود بالنفع على الاقتصاد العام دون أن تتوقف لأي سبب مالي فمعروف أن أي اقتصاد ناجح لا بد من أن يقوم في جل عمله على المشاريع الصغيرة لأنها توظف الطاقات البشرية وتستغلها بشكل اكثر فاعلية، أما على صعيد السياسة المالية فقد شهدت المملكة خلال العامين الماضي والحالي اكبر ميزانيتين بتاريخها على التوالي، خصوصا من حيث الإنفاق الاستثماري حيث بلغت ميزانية المشاريع المقررة للعام 2009م مبلغ ضخم وصل إلى 225 مليار ريال مرتفعا من 165 مليار ريال للعام 2008م ويأتي التوسع بالسياسة المالية تبعا للاستفادة من انخفاض الأسعار عالميا، وكذلك الحاجة الماسة لتطوير البنى التحتية بالمملكة التي تأثرت خطط تحديثها وتوسعها خلال مراحل تقلب أسعار النفط بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي فقد تزامنت ظروف عديدة بمرحلة واحدة أدت لهذه السياسة التوسعية بالإنفاق، فمن ناحية ارتفع عدد السكان بشكل كبير وتعتبر الزيادة السكانية بالمملكة من أعلى المعدلات عالميا (3%) تقريبا وبميزة مهمة جدا أن اغلبهم من فئة الشباب، ما يعني ضرورة إعدادهم بشكل مناسب لسوق العمل ومتطلبات المجتمع فكان التركيز على قطاع التعليم حيث فتحت اكثر 15 جامعة جديدة بخلاف فروعها بمختلف المناطق واصبح لكل منطقة إدارية جامعة أو اكثر بخلاف معاهد التدريب وتحديث نظم ومناهج التعليم عموما ويتطلب ذلك رفع بمستوى الرعاية الصحية وغيرها من الخدمات التي قدمت لها مبالغ كبيرة جدا.

ولكن بالمقابل فإن تحديث البنى التحتية وتطويرها ينعكس على الاقتصاد من حيث تأمين الخدمات الضرورية لتهيئة بيئة للاستثمار وجذبها من الخارج وهذا ما تهيأ من خلال المدن الاقتصادية الحديثة التي ستوزع التنمية على كافة أرجاء الوطن وقد أظهرت النتائج الأخيرة أن المملكة تحتل المركز 13 عالميا والأول أوسطيا من حيث بيئة الاستثمار وفي المركز 28 عالميا من حيث التنافسية الدولية وهذه أرقام مهمة تبرز اسم المملكة كوجهة اقتصادية قادمة بقوة إلى الساحة الدولية كلاعب رئيس فيها، وتحقيق ذلك جاء بجهود جبارة وتوجيهات حكيمة من القيادة ألغت معها معظم السلبيات التي اعترت العالم اليوم فخطط الإنفاق الكبيرة أبرزت مكانة المملكة الآن من حيث محافظتها على معدلات نمو جيدة للقطاعات غير النفطية، وخصوصا الخاص بل أصبحت الكثير من الشركات العالمية ترى في السوق السعودية الفرصة الأبرز نظير ما يتم إنفاقه على المشاريع الاستثمارية بالدرجة الأولى لأنها هي التي تخلق البيئة الإيجابية لعالم المال والأعمال خصوصا أن المملكة ترى ضرورة تهيئة الفرص لإيجاد أكثر من مليون فرصة عمل خلال عقد من الآن كخطة طموحة لتوظيف الشباب السعودي الذي يتم إعداده الآن.

من هذا المنطلق نجد أن الإنفاق الحكومي المتوسع أسهم بتحويل مدن المملكة إلى ورش عمل تدب بالنشاط الكبير فحجم المشاريع ضخم جدا هذا بخلاف ما أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين خلال قمة واشنطن لمجموعة العشرين بأن المملكة ستنفق 400 مليار دولار أمريكي أي 1500 مليار ريال على اقتصادها مناصفة بين قطاعات الطاقة بشكل عام والقطاعات الأخرى، ما يعني أن إضافة الاستثمارات للقطاع الخاص بمجمل الخدمات خلال العقد القادم ستقدم أرقاما كبيرة سيتم ضخها على أرض الوطن، فقطاع التشييد والبناء سيتطلب اكثر من 1000مليار ريال، ويأتي تهيئة البنى التحتية كحافز ومؤشر على انطلاق العجلة للقطاع الخاص كي يتحرك بمشاريعه ويلعب دوره الفاعل بتنويع مصادر الدخل بالناتج الوطني.

إن محصلة ما تم اتخاذه من تدابير إلى الآن انعكس بالإيجاب على الاقتصاد الوطني، سواء من حيث التطوير والتحديث الذي كان يحتاجه أو من حيث امتصاص آثار الأزمة العالمية والخروج منها باقتصاد قوي تزداد فيه نسبة تأثير القطاع الخاص بناتجه الوطني وتقل فيه نسبة الاعتماد على النفط خلال عقد قادم إلى النصف من خلال اكبر عملية تنمية تشهدها المملكة على كافة الصعد والقطاعات وبكافة أرجاء الوطن وإذا كنا نحتفل بعيد الوطن فإننا ندعو الله عز وجل أن يحمي المملكة ويحفظ لها قيادتها الحكيمة وان يوفق شعبها لتحقيق رؤى وتطلعات قائد المسيرة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - للوصول بالمملكة إلى مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا وعلميا.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد