Al Jazirah NewsPaper Saturday  26/09/2009 G Issue 13512
السبت 07 شوال 1430   العدد  13512
مسيرة الصين القصيرة
أورفيل شِل

 

تعكف الحكومة الصينية في الوقت الحالي على تجهيز استعدادات هائلة لتنظيم موكب اليوم الوطني الأكبر في ميدان السلام السماوي بمدينة بكين احتفالاً بكل من الذكرى السنوية الستين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية والذكرى السنوية الثلاثين لبرنامج دنج شياو بنج (للإصلاح والانفتاح). بينما كنت أسير على الأقدام عبر ذلك الميدان في إحدى الأمسيات، وجدت نفسي أعود بذاكرتي إلى الأيام التي بدأت فيها متابعة الملحمة الصينية المذهلة. فما زال محيا الرئيس ماو الأشبه بوجه الموناليزا يطل من أعلى بوابة السلام السماوي، ولكن ما كان يدور من حولي آنذاك جعلني أستشعر مدى التغيير الذي طرأ على كل شيء.

عندما بدأت دراسة الصين في جامعة هارفارد قبل نصف قرن من الزمان، كان زعماء الصين يتباهون بتفوق اقتصادهم الاشتراكي الموجه، الذي سيطر على كل جوانب الحياة. ولكن العداء بين الولايات المتحدة منع الطلاب من أمثالي من السفر إلى هناك.

ولكن في عام 1957، وبينما كان ماو لا يزال على قيد الحياة، وكانت الثورة الثقافية لا تزال مستعرة، والسياسات الطبقية لا تزال متحكمة، وبينما لم تكن هناك ملكيات خاصة ولو حتى لسيارة أو دكان، سافرت إلى بكين. وحتى نحن الزوار الأجانب - الذين أذعنوا لارتداء سترات وقبعات ماو الزرقاء - كان من المفروض علينا أن نحضر (دورات دراسية) سياسية منتظمة لتنقية عقولنا البرجوازية بأوراق دعاية بروليتارية كتبتها عصابة الأربعة. كانت هذه الرحلة بمثابة خط أساسي لا يمحى، وهو الخط الذي مكنني من قياس كل التغييرات التي شهدتها الصين منذ ذلك الوقت.

وبينما بدأ دنج شياو بنج في تشجيع الحوافز الفردية على مدى العقود العديدة القادمة - وهو ما تجسد في شعارات مثل (إصابة الثراء أمر مجيد) - أخذت أراقب بتعجب ودهشة بداية نهوض الاقتصاد الخاص في الصين من تحت رماد ثورة ماو. ومع تكشف هذه العملية بات من المعتاد بين الأصوليين من أنصار السوق في الغرب يتنعمون بشعور البراءة من الخطأ. أو ليس الموازين تسقط الآن بعيداً عن أعين قادة الصين، أفلا يسارعون الآن طلباً للإنقاذ من آلهة الرأسمالية الذين دأبوا على شجبهم؟

كان ذلك الفاصل من (نهاية التاريخ)، وعلى الرغم من أن (الشيوعية) لم تكن في انحدار ولم تكن بصدد إعادة تدوير نفسها إلى النقيض، سبباً في تشجيع العديد من مبشري السياسة الأمريكية على الترويج للديمقراطية، بل والرأسمالية لحث قادة الصين على هجر سيطرة الدولة، ليس فقط على اقتصادهم، بل وأيضاً على نظامهم السياسي.

وحين دخل باراك أوباما البيت الأبيض، بعد ثمانية أعوام مأساوية من الكوارث التي شهدتها رئاسة جورج دبليو بوش، بدا الأمر للحظة وكأن أمريكا قد تكون قادرة على وقف انحدارها المتواصل. ولكنّ أمراً غير مرغوب حدث. فقد اصطدم أوباما بالعاصفة الكاملة التي نشأت نتيجة لأسوأ جوانب الديمقراطية الأمريكية: جهالة الأفظاظ، وجبن المحافظين، والعرقلة من جانب الحزب الجمهوري، بل وحتى الانشقاق من جانب بعض أعضاء الحزب الديمقراطي.

وأصيب الكونجرس الأمريكي بالشلل بفعل سياسات التحزب. ومع افتقاره الواضح إلى جهاز عصبي مركزي، تحول الكونجرس إلى مخلوق عاجز يتمتع بأقل قدر من الإدراك لأي مصالح وطنية مشتركة، ناهيك عن المصالح الدولية. وفي ظل هذه الظروف فليس بوسع أي زعيم مهما بلغ من العبقرية، وعلى الرغم من مساعديه الأكفاء والسياسات الواعدة، أن يتمكن من تنفيذ أجندته.

وبينما انهمكت الحكومات الغربية على نحو متزايد في محاولة إصلاح اقتصادها المعطوب، كانت الصين تعمل على صياغة سلسلة كاملة من السياسات الجديدة المدروسة لمعالجة مشكلة عصيبة تلو الأخرى. وبعد خروجهم منتصرين من ألعاب 2008 الأولمبية، أخذ قادة الصين على عاتقهم تنفيذ البرنامج الأكثر إبهاراً لتشييد البنية الأساسية في التاريخ، وتقديم حزمة تحفيز اقتصادي بالغة النجاح، والآن يتحركون نحو طليعة التكنولوجيا الخضراء والطاقة المتجددة وكفاءة الطاقة - وهي الأنشطة التي سوف تشكل بكل تأكيد التربة الخصبة التي سوف تحتضن نمو الاقتصاد العالمي الجديد.

أستطيع أن أقول باختصار إن الصين أصبحت مصنعاً للطاقة، والمال، والزعامة، والتخطيط، والحركة إلى الأمام، في حين بات الغرب مشلولاً.

بينما كنت أسير متمهلاً عبر ميدان السلام السماوي، كانت المفارقة التي لفتت انتباهي هي أن نظام الرأسمالية الديمقراطية الذي طالما آمن به الغرب ودافع عنه بكل حماسة يبدو الآن وكأنه خذلنا. وفي الوقت نفسه يبدو ذلك النوع من الحكم الاستبدادي والاقتصاد الذي تديره الدولة، والذي دأبنا على الطعن فيه، وكأنه يخدم مصالح الصين على أكمل وجه.

إنه لأمر مقلق على المستويين الفكري والسياسي أن ندرك هذه الحقائق، وإذا عجز الغرب عن المسارعة إلى تقويم أنظمة الحكم لديه، فإن البلدان التي تفتقر إلى الإصلاح السياسي مثل الصين سوف تكون وحدها القادرة على اتخاذ القرارات التي تحتاج إليها الأمم حتى تتمكن من البقاء في عالم اليوم الذي تحكمه السرعة والتكنولوجيا الفائقة والعولمة.

خاص «الجزيرة»
أورفيل شِل مدير مركز العلاقات الأمريكية الصينية لدى جمعية آسيا.



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد