قرأت ما كتبه د.عبدالرحمن بن صالح العشماوي في العدد 13505 بعنوان (المسلم الحق)، وفيه تحدث عن حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وهو حديث عظيم جداً فيه من المعاني السامية الكثير. هذا المسلم ليس اسماً وشكلاً فقط إنه لا يؤذي أحداً بكلام بذيء، وفي الحديث الشريف: (ليس المسلم بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء). الإسلام يحدد لنا كل مواقف حياتنا ويرشدنا إلى المسالك الصحيحة حتى بالحديث مع غيرنا وأريد من كل واحد منا أن يسأل نفسه هذا السؤال: كم مرة سئل أحد غيرك ولم تضع نفسك وصياً للإجابة عنه؟ كم مرة لم تحاول أن تكمل كلام الآخرين؟ كم مرة أجبت عن ملاحظة أو سؤال وجه إليك بعد إكمال الآخر ملاحظة أو سؤالاً؟ ألا تلاحظ معي أننا نسرع في الدفاع أو في الإجابة بناء على تصورنا وتوقعنا عن السائل وعن نوعيته هو لا عن نوعية السؤال؟! كثيراً ما نعلق على ملاحظة أو سؤال أحد الأشخاص بناء على موقف معين منه أو سماع سابق عنه.. بمعنى عن خلفيتنا (الشخصية) عن هذا الشخص أو ذاك وإن كانت خاطئة.. إننا نجيب في كثير من الأحيان دون أن نفكر ونعلق دون أن نعرف ماذا نقول وماذا نعلق عليه.. كثير من ملاحظاتنا وإجاباتنا مغلفة ب(الأنا) وهي: أنا أعرف أكثر من الطرف المقابل.. و(أنا) أكثر (خلفية) منه و(أنا) لدي معرفة سابقة عن الموضوع؛ فصارت (الأنا) هي ما يدفعنا دفعاً إلى أن نتكلم دون أن نفكر.. ونبذل من طاقاتنا قدراً هائلاً مهدراً في احتراق داخلي هائل لا طائل من ورائه وليس لنا من أي عائد يذكر إلا الجهد النفسي والفكري الذي يدفعنا إلى أن نعتبر الآخرين أقل منا علماً وفكراً.. ونتصورهم (منافسين) لنا وفي كثير من الأحيان (خصوماً) لنا.
نتكلم مع أي شخص يبدي رأياً وإن كان محايداً على أنه (خصم) يجب دحض رأيه ورد أي ملاحظة أو مبدأ يبديه هو بكل أريحية.. فيندفع الجميع لدحض وجهة نظره حتى قبل أن يكمل كلامه.. المطلوب من كل شخص منا أن يسأل نفسه عن عدد المرات التي انتظر فيها المتكلم حتى ينتهي من كلامه.. ثم يبدأ هو الكلام.. الجواب بالطبع لا.. إلا في قليل من الأحيان.. فتجد أننا إما أن نكمل كلامه ونفكر بالنيابة عنه.. فنقول أنت تقصد كذا.. وكذا... وأعرف ماذا تريد أن تقول.. وإما أن نقاطعه قبل أن يكمل ونقول الإجابة بناء على كلام مجتزأ من كلامه فندخل في دوامة من الجدل لا تنتهي.
وفي الغالب فإن الانتصار للنفس والمكابرة يلعبان دوراً رئيسياً في النقد والجدل الذي يثور في كثير من الأحيان بسبب كلمة جاءت بشكل غير مفهوم أو على خلفية خلاف سابق.. والأدهى من ذلك أن بعض الأشخاص يدافعون عن أي رأي مهما كان خطأ لشخص ما حميةً له وانسياقاً للعواطف معه بسبب معرفته والقرب منه فقط دون النظر إلى الهدف من الحوار.. إن كثيراً من كلمات النقد والانتصار للرأي، مهما كان خاطئاً، هي صفة من صفات الكبر التي حذر منها الخالق - سبحانه وتعالى -؛ فأول ذنب عصي به الله هو الكبر والتعالي عن الحق؛ فإبليس عصى أمر ربه بالسجود لآدم بسبب أن آدم خلق من طين.. وخلق هو من نار.
وبالتالي فإن التعامي والكبر والاعتداد بالنفس ذنب عظيم يقود صاحبه إلى المهالك وإلى ازدرائه، وقد وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ترك المراء (وهو الجدال) ببيت في أعلى الجنة، هكذا يهذب الإسلام أفراده ويحذرهم من المراء والمكابرة بل يعدهم بالجنة إن هم تركوهما.. ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة حسنة؛ فحين جذبه أعرابي من ردائه فأثر في كتفه قائلاً: ... اعدل، التفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم مبتسماً، فأين نجد شخصاً يقابل الإساءة بالابتسام ولم نعهد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رغم ما لقي من الأذى من قريش، كلمة نابية أو حتى تسخطاً أو تذمراً بل تعالى على هذه الجراح ونظر بعيداً وقال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
يجب أن نتعلم من السيرة النبوية في هذا الزمن الذي تثير الأزمات فيه كلمة ويساء الظن بالآخرين ويسار فيه خلف كل ناعق.. تسير فيه الألسن والأقلام حمية دون أي ترو أو تفكير.
إن البعض يملكون قدرة عجيبة على تحويل المواقف الإيجابية إلى سلبية، ويملكون قدرة أكبر على الهدم.. يرون الورود فيبحثون عن الشوك فيها.. وعندما يستهلكون جهدهم وأوقاتهم ولا يجدون الشوك يبدأون في الحط من هذا الورد.. هناك ورد أفضل منه.. وهم لا يعلمون أين هو.. هذه الوردة ألا تلاحظون أوراقها.. ولونها.. بل رائحتها تتحول في نظرهم إلى رائحة كريهة؟!
هؤلاء يحولون حياتهم وحياة الآخرين إلى جحيم.. لا يرون حياة إلا بمنظار أسود.. فإذا لم يجدوا هذا المنظار الأسود يبحثون عنه بكل ما يستطيعون بل يملكون قدرة عجيبة وذكاءً خارقاً لصنع هذا المنظار الأسود.. ويتحولون إلى عباقرة لمحاولة صنعه.. هنا سأسوق بعض المواقف الحسية التي تقابلها مواقف معنوية:
1 - شخص يرى الربيع وخضرته والزهور وزهوها.. فلا يلتفت إلى ذلك.. يبدأ البحث عن أرض سبخة بين كل ذلك الربيع الزاهي.. فإذا لم يجد.. يبدأ تعداد مساوئ ذلك البساط الأخضر والربيع الزاهي.. هذا النبات رأيت ما هو أفضل منه.. هذا النبات يلتصق بالثياب.. هناك شوكة تؤذي الناس فيه.. إنه بالتحديد (مثل الذباب يراعي موطن العلل)!
2 - شخص يرى النهر الرقراق ومياهه العذبة تنساب كالفضة.. فيقول: ما هذا الماء الذي حجز بيننا وبين الضفة الأخرى.. لو لم يكن هناك ماء لعبرنا بسهولة.. انظروا إلى الطحلب في الماء.. لو عبرنا خلاله لابتلت ثيابنا بالماء، ولا يعرف أن هذا الماء هو الذي يرويه من الظمأ.. وهو الذي يسقي ما يأكله من فواكه وحبوب وثمار.
3 - شخص آخر يرى البحر.. فيشتكي من رطوبته.. ويشتكي من ملوحته.. وشخص آخر يرى البحر.. فيقول هذا الذي نستخرج منه اللؤلؤ والسمك اللذيذ الخالي من الكوليسترول.. هو الذي يحمل السفن والبواخر.. هذا هو الذي يأتي منه النسيم العليل.. ليلاً.. إلى غير ذلك من هذه المواقف.
لننظر هل سنغير المجتمع أو العالم إلى الأفضل عندما ننتقد لشيء في أنفسنا؟ سنجد أننا نستهلك وقتاً وجهداً وطاقة هائلة.. ونرفع درجة غليان دمائنا.. والنتيجة لا شيء.
م. عبدالعزيز بن محمد السحيباني