Al Jazirah NewsPaper Wednesday  30/09/2009 G Issue 13516
الاربعاء 11 شوال 1430   العدد  13516
ثورة أصحاب الجدارة
جان بول فيتوسي

 

جاء إنقاذ النظام المالي في لحظة غريبة من تاريخ الاقتصاد، ذلك أن عملية الإنقاذ أفادت أولئك الذين حققوا القدر الأعظم من الاستفادة من الوفرة الطائشة التي عاشتها الأسواق طيلة أعوام - رؤساء الشركات المالية. إلا أن عملية إعادة توزيع الثروة قبل الأزمة (وأموال العائدات الضريبية والضمان الاجتماعي التي جعلت ذلك ممكناً) كانت تشكل العقبة الأضخم أمام تحقيق الكفاية الاقتصادية والواقع أن قيم التضامن أفسحت الطريق أمام قيم (الجدارة) الفردية المستندة إلى حجم دخل أي شخص أو راتبه.

وتكمن المفارقة هنا في أن جزءاً من هذا التطور قد يكون راجعاً إلى عاملين إيجابيين: العمل البطيء للديمقراطية، والذي يعمل على تحرير الأفراد ولكنه يجعلهم في الوقت نفسه أكثر انعزالاً؛ وتطور نظام الرعاية الاجتماعية الذي يتقاسم المخاطرة مع الأفراد ويجعلهم أكثر استقلالاً. وفي ظل هذه العزلة وهذا الاستقلال أصبح الناس يميلون على نحو متزايد إلى اعتقاد مفاده أنهم وحدهم المسؤولون عن مصائرهم.

وهنا تكمن المعضلة. ذلك أن حرية الفرد واستقلاله يرجعان في الأساس إلى القرارات الجمعية التي تم التوصل إليها من خلال الحوار الديمقراطي، وبخاصة تلك القرارات التي تضمن لكل شخص القدرة على الوصول إلى المنافع العامة مثل التعليم والرعاية الصحية، وما إلى ذلك. وقد يظل الأمر مشتملاً على حسٍ بالتضامن الاجتماعي، ولكن هذا الحس مجرد إلى الحد الذي يجعل هؤلاء الذين تدور عجلة الحظ لصالحهم لا يشعرون بالجميل إلا قليلاً. فهم يعتقدون أنهم مدينون بما وصلوا إليه من مكانة إلى الجدارة البحتة، وليس إلى الجهود الجمعية -المدارس والجامعات التي تمولها الدولة، إلى آخر ذلك- التي مكنتهم من تحقيق إمكانياتهم.

حين تقاس الجدارة بالمال، فإن حجم الدخل الفردي يصبح بلا حدود. فإن كنت أكسب عشرة أو مائة أو ألف ضعف ما تكسبه، فذلك راجع إلى استحقاقي لعشرة أو مائة أو ألف ضعف ما تكسبه أنت.

إن الجدارة والمهارات تمثل الكيفية التي نضفي بها القيمة على المال. والطبيعة البشرية -الأنا و/أو الغطرسة- تتولى الباقي. وليس من المستغرب إذن أن العديد من الناس يفكرون في أنفسهم وكأنهم لا يقدرون بثمن. وتشكل السوق المالية النقطة المركزية التي يلتقي عندها هذا التقييم المفرط للذات مع العقبات المتذللة. فالمال هناك عبارة عن فكرة مجردة -أو تجريد التجريد كما وصفه هيجل- وهو ما يفسر لنا جزئياً لماذا أصبحت الرواتب غير معبرة عن الواقع.

بطبيعة الحال، حين ضربت الأزمة ضربتها، كانت المؤسسات المالية هي أول من يزعم أن الاستقلال كان غير واقعي، وأن الاعتماد المتبادل يربط بيننا جميعاً. فما الذي قد يحمل دافعي الضرائب على إنقاذهم غير ذلك؟

ولكن هاهي ذي نفس المؤسسات تقرر الآن أنها لابد وأن تمارس العمل على طريقتها الخاصة مرة أخرى. والآن يعود الأمس (ما قبل الأزمة) إلى الحياة من جديد. وبإنكار المخاطر التي تكبدها دافعو الضرائب، استغلت المؤسسات المالية عملية الإنقاذ لاستعادة قدرتها على تحقيق الأرباح، وقررت الارتداد إلى عاداتها القديمة، التي عملت على خير ما يرام بالنسبة لها وعلى أسوأ نحو ممكن بالنسبة لغيرها.

ولا ينبغي لأحد أن يفاجأ بهذا. ذلك أن المخاطر الاقتصادية تشجع الجميع على الخروج بأفضل ما يمكنهم الخروج به من الظروف المحيطة بهم. لقد أدى إنقاذ البنوك إلى موجة من عمليات الاندماج. وإذا كانت تلك البنوك في الأساس أضخم من أن نسمح لها بالإفلاس، فماذا ينبغي لنا أن نقول الآن بعد أن أصبحت أضخم من ذي قبل؟ فقد تزايدت قوتها السوقية، ولكنها تدرك أنها لن تتحمل أي مخاطرة، وذلك بسبب التأثيرات النظامية الشاملة المتفاقمة التي قد تترتب على إفلاسها المحتمل.

فضلاً عن ذلك فإنها تواجه اقتصاداً متعطشاً للائتمان، حيث تسببت الأزمة في تعريض العديد من الشركات للخطر، ولكنها شركات ما كان إفلاسها ليؤدي إلى تأثيرات نظامية شاملة. إن العمل في بيئة غير تنافسية إلى هذا الحد يشكل ضربة حظ. والحقيقة أنني لا أعرف الكثير من رجال الأعمال الذين قد لا ينتهزون مثل هذه الفرصة؛ وللأمانة فأنا لا أعرف أياً منهم بهذه المواصفات.

لقد ساهم مذهب السوق الحرة، الذي كاد يتحول إلى ديانة، في تعزيز هذا الاعتقاد وتعميقه: الأسواق تتسم بالكفاءة، وإذا كانوا يدفعون لي هذا القدر الضخم من المال (الذي قد يكون هائل الضخامة كما رأينا في الحالات الأخيرة)، فإن هذا يرجع إلى أن كفاءتي تضمن لي ذلك. وأنا أشارك أيضاً بشكل تجريدي وغير مباشر في صياغة الصالح العام، بخلق القيمة من خلال عملي، الذي أكافأ عليه.

ولكن النظام ينهار فجأة، وتتحول عملية خلق القيمة إلى دمار، وتتصادم عوالم متوازية. ولا يستطيع أي خبير في الرياضيات أن يتذكر مثل هذه النتيجة المذهلة غير المسبوقة: خطوط متوازية تتقاطع، حيث تحول الاستقلال (لفترة وجيزة أثناء عمليات الإنقاذ على الأقل) إلى اعتماد متبادل. وذلك لأن الارتباطات بين الاقتصاد وعالم التمويل بالغة القوة، ولأن الاعتماد المتبادل بين العوالم المتوازية المزعومة في غاية الإحكام، حتى لم يعد هناك خيار آخر.

لقد باتت الأعين مفتوحة؛ وأصبحت المراجحة بين الكفاءة والتضامن في أفول. والحقيقة أن الأزمة تذكرنا بما يدين به كل منا للآخر، الأمر الذي يسلط الضوء على حقيقة أخلاقية مفادها أننا نسينا بسرعة: فالأغنياء يستفيدون أكثر من الفقراء من تعاونهم مع أعضاء آخرين في المجتمع.

نستطيع أن نخرج باستنتاجين من كل هذا. الأول أننا مدينون جميعاً بجزء على الأقل من نجاحنا لأشخاص آخرين، نظراً للمنافع العامة التي يوفرها المجتمع. وهذا يدعو إلى المزيد من التواضع وضبط النفس في تحديد الرواتب الأعلى، ليس لأسباب أخلاقية بل من أجل استدامة النظام.

والاستنتاج الثاني هو أن الطبقات الأوفر حظاً، والتي استفادت أكثر من غيرها من التضامن بين آخرين وبخاصة الفقراء، لم يعد بوسعها أن تستمر في إنكار إسهامات غيرها من الطبقات. ولكن لا تحبس أنفاسك في انتظار حدوث اتفاق بين الفئتين.

خاص «الجزيرة»
* جان بول فيتوسي أستاذ علوم الاقتصاد ورئيس المعهد الفرنسي للبحوث الاقتصادية OFCE في باريس.



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد