Al Jazirah NewsPaper Wednesday  07/10/2009 G Issue 13523
الاربعاء 18 شوال 1430   العدد  13523

ضعف الحياء والممارسات غير المسؤولة 2-2
اللواء ركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان

 

وشرف المنصب يحتم على الذي يشغله بأن يجعل من نفسه قدوة، وأن يكون سباقاً إلى كل ما يدعو إليه شرف الوظيفة قبل أن يطلب من الآخرين الانقياد لهذا الشرف والعمل ضمن حدوده والتقيد بقيوده، والشرف لا يقبل التجزئة ولا مساومة عليه..

فالاستقامة والأمانة والعدالة وطهارة اليد وعفة اللسان كلها فضائل لا غنى لأي شاغل منصب من أن يجسدها من خلال أقواله وأفعاله، حتى يدفع غيره إلى الاقتداء به وترسم خطاه، صانعاً لهم بحسن الأسوة ذلك القالب الذي يضعون أنفسهم فيه، أما إذا ما أخفق ممثل السلطة في إعطاء المثل، ولم يقدم شواهد مشاهد وممارسات مجسدة تدل على علو كعبه ورصيده من هذه الفضائل، أو كان ما يقوله يتناقض مع ما يفعله، فإنه عندئذ بقدر ما يسيء إلى السلطة التي يمثلها، ويتصرف باسمها بقدر ما يوبخ نفسه، وبذلك يجمع بين خداع النفس واستغباء الغير وبين التحلل من الحياء، وقد قال عبدالله بن مسعود: من كان كلامه لا يوافق فعله فإنما يوبخ نفسه.

والأولى بشاغل المنصب كلما ارتفعت منزلته وعلت مكانته أن يؤدي واجباته الوظيفية ومهامه التكليفية على أحسن ما يكون الأداء، وأن يتخلى عن برجه العاجي، جاعلاً من نفسه حاجباً ومستشاراً لولي الأمر الذي أولاه الثقة وحمله الأمانة والمسؤولية، فينظر بعينه، ويسمع بأذنه، مصنفا الناس على حسب أحوالهم ومطالبهم لردع الظالم ورفع الظلم عن المظلوم، ومرتبا إياهم تبعا لمقاماتهم واستحقاقاتهم وما هو الفاضل والمفضول بحسب العمل المؤدى والإنجاز المنجز، مع الصبر عليهم وتصفح التماساتهم، وما يتوسلون به من وسائل وينتحلونه من أساليب، بدلاً من أن يتخذ له مكاناً علوياً، منشغلاً بنفسه، ومسيطراً عليه طيش المنصب، يستلطف هذا ويستهدف ذاك، مُدنيا اللئام ومُبعدا الكرام، ومقياس الولاء عنده ما يسمعه من عبارات التملق والتزلف، والأمانة والمسؤولية تفرضان عليه أن يدرك تمام الإدراك أن ولي الأمر قلده هذا المنصب ليقوم مقامه وينوب عنه تجاه الذين يقوم على خدمتهم ويتولى أمرهم باسم السلطة العليا.

وقد قال زياد ابن أبيه: استشفعوا لمن وراءكم، فليس كل أحد يصل إلى السلطان، ولا كل من وصل إليه يقدر على كلامه، وإذا كان هذا حال الشفاعة وهي تقع على هامش المسؤولية فكيف هو الحال بالنسبة للمسؤولية والأمانة وموقف شاغل المنصب حيال ذلك. والصغير عادة ما تطيشه المناصب والرتب ويتغير معها تارة ويتلون تارة أخرى، خانعا لمن فوقه، ومتعاليا على من دونه، أما الكبير فيتطور معها ولا يتغير، بل يظل كبيرا كلما كان مغلفاً تشريف المنصب بالتواضع، وإذا ما أسعفه الحظ وواتته الفرص وأصبح صاحب حظوة، فإنه لا يتفاجأ بذلك، لأنه في مستوى حظه، ومهما بلغت حظوته فإنها لا تتجاوز علو همته، ويكون على أتم استعداد لها، مطيعاً لمن فوقه ومهتماً بمن دونه، والإنسان المتفوق دائما رابط الجأش منيع الأعصاب سواء مدحته أو هجيته، فلا يحيد عن هدفه ولا تنثني إرادته، والإحساس بالثقة لا يمنعه من الاعتراف بالضعف الإنساني ومواطن اللجوء إلى الحياء، وقال إبراهيم بن المهدي حول ذلك شعراً:

لو الحياء وأنني مشهور

والعيب يعلق بالكبير كبيرُ

لحللت منزلنا الذي نحتله

ولكان منزلنا هو المهجور

وقد سئل عمار بن ياسر عن الولاية فقال: إنها حلوة الرضاع مرة الفطام، وينطبق هذا الوصف بنسب متفاوتة على المناصب الوظيفية والمزايا المترتبة على تسنم هذه المناصب، والرضاع المشروع الذي يعود على شاغلها، وكذلك حجم المعاناة التي يعانيها عندما يعزل عنها، وإذا كان هذا حال المنصب وما له من مزايا مشروعة، وما يترتب عليه من جاه وأبهة، فماذا عن الرضاع غير المبرر والفساد الإداري الذي ينجم عنه؟ وبما أنه كيفما يكون الرئيس يكون المرؤوسون فإن الموظف الصغير سواء أكان مدنياً أو عسكرياً إذا لم يجد في رئيسه مثلا يحتذى به بالنسبة لنظافة اليد والعفة من المال العام ومحاربة الفساد بأنواعه، فإن هذا الموظف قد يدفعه ضعف الوازع الديني ونقص الحياء والحاجة وغياب المراقبة إلى ممارسات غير مسؤولة، ومنها على سبيل المثال ما قد يقع فيه من رشوة تحت غطاء الرشوة رشاء الحاجة أو مقابل أتعاب أو على هيئة مكافأة أو أي مصطلح آخر في هذا الزمن الذي طغى عليه السعار المادي، وأصبحت الغاية فيه تبرر الوسيلة، ناهيك عن استغلال السلطة والتنصل من المسؤولية والمحسوبية والإهمال في العمل والمماطلة في المواعيد وضعف الأداء وسوء التنفيذ وكثرة الأخطاء وغير ذلك من نذر الفساد والمظاهر السلبية المتفشية في المجتمع.

والمقصود بالممارسات غير المسؤولة هي تلك الممارسات التي تلحق الأذى بوحدة الوطن ومصالحه العليا، واستقرار الوطن واستتباب الأمن فيه مرهون بقوة نظامه الاقتصادي وتوفير ضروريات الحياة للمواطنين والارتقاء بها إلى الكماليات والتمتع بنعم الله على الوجه المشروع بقدر ملكيتها ووجودها، ورغم أن الوطن ينعم بخير عميم، ويرفل في نعيم مقيم إلا ان بعض أبنائه والمحسوبين عليه سيطرت عليهم الماديات وتحكم فيهم حب المال إلى الدرجة التي تحول بهم الطمع والجشع إلى شبه مرتزقة، مغلبين مصالحهم الخاصة على المصلحة العامة، ولا يعنيهم من الوطنية إلا مقدار ثروتهم وكم هي أرصدتهم، مهما كانت وسائلهم غير المشروعة وأساليبهم الملتوية، أو كان ذلك على حساب الوطن والتضييق على الطبقة الدنيا وأصحاب الدخول المتدنية، وما يفضي إليه هذا الوضع من استفحال الطبقية في المجتمع وإضعاف روح الانتماء وانطفاء الحس الوطني، وبالتالي تأليب الناس على الدولة والإخلال بالأمن نتيجة للنيل من مقومات الحياة الضرورية التي كفلها الله لعباده في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}. كما أن الطبقية في أسوأ حالاتها تعني ان من كثر ماله طغى ومن ساءت حاله غوى.

وأخذ أموال الناس بالباطل كما حصل أثناء تقلبات الأسهم، وركوب موجة الغلاء التي واكبت الأزمة المالية العالمية، ما كان لهذا أن يكون لولا وجود المستغلين والمحتكرين الذين غلبت على نفوسهم الأنانية، وهوت بهم الأثرة إلى مستنقع الاستغلال ووحل الاحتكار، وحب الذات من فطرة النفس الإنسانية وطبيعتها، ولكن النظام الاقتصادي في الإسلام يرتفع بهذه النفس ويسمو بها فوق أنانيتها وشهواتها، وينقلها من حضيض الفردية والنظرة الدونية إلى ما فيه الخير لها ولمجتمعها.

والركائز الاقتصادية الصحيحة والمشروعة كفيلة بتحقيق الخير لأصحاب المال والوطن، طالما حركة هذا المال تجري في النطاق المشروع، وهذه الركائز هي مشروعية الحصول على المال ومشروعية استثماره، وصرفه أما إذا ما تم الحصول على المال بالباطل، واستثماره بالربا والغش وغير ذلك من الطرق غير المشروعة فإن الوطن يتضرر من جانبين أولهما بسبب حركة المال غير المشروعة في الداخل وانعكاساتها وتبعاتها السلبية، وثانيهما نتيجة للصرف غير المشروع وخاصة ما يصرف في المجالات التي لا تخدم الوطن ولا تليق بمكانته الدينية، فضلاً عن انها تسيء إلى سمعته وتجلب له سوء الأحدوثة سواء أكان ذلك في الداخل أو الخارج، وقد قيل: من أصاب مالا من مهاوش أذهبه الله في نهابر.

والدولة ممثلة في قيادتها الرشيدة تعمل ما بوسعها وتبذل غاية جهدها في سبيل توفير الضروريات والكماليات للمواطنين من خلال البنى التحتية والإنجازات الوطنية والمحافظة على الثروة السيادية، وكل ما من شأنه النهوض بالوطن وجعله في الصدارة بين الأمم والمواطن في الغالب لا يؤدي دوره كما ينبغي في هذا المضمار مشكلاً الحلقة الأضعف في سلسلة النشاطات الاقتصادية.

وعلى المستوى العام فإن روح السلبية والعفوية وتغليب العاطفة ومركبات النقص وحب المظاهر تعتبر من أكثر الممارسات المتفشية في المجتمع، بل تكاد تكون عادات معتادة وطبائع متأصلة عند بعضهم لتكرارها والمداومة على ممارستها واعتبارها جزءاً من نظام الحياة حتى انها صارت معتركاً للمنافسة ومحلا للمقايسة بالنسبة للوجاهة وإثبات الوجود وعرض القدرة المادية والتفوق فيها، وإذا ما أضيف إلى ذلك حياة الترف والدعة التي يميل إليها بعض الآخر وينغمس في ملذاتها، انكشف واقع شريحة كبيرة من المجتمع ومجالات اهتمامها وانشغالها بما لا طائل من ورائه غير مكترثة بما يدور حولها، وما يواجه وطنها من تحديات ويتربص به من مخاطر، ومن يلقي نظرة فاحصة على بعض قنواتنا الشعبية وبعض مظاهر أنشطتنا الداخلية ومناسباتنا الخاصة، وكذلك بعض ما يظهر في وسائل إعلامنا يأخذ انطباعا يضر بالصورة الوطنية لما يظهر له من اهتمامات سطحية وممارسات دونية توحي بانغلاق الفهم وغياب الهم وفتور الهمم.

والنعم التي يتقلب فيها المجتمع بجميع تقسيماته الفكرية والانتمائية وقواه الاقتصادية كم هو خليق بالجميع أن يقدروها حق قدرها، وأن يترجموا شكرها من خلال التماسك الداخلي والالتفاف حول القيادة وصدق الانتماء للوطن، وشكر هذه النعم لن يكتمل إلا بالموازنة بين المعاصرة والأصالة ومضاعفة الجهود ونفض غبار السلبية وإحلال الايثار محل الأثرة في سبيل إصلاح الذات والوعي بما يحدق بالوطن من أخطار، وما يبيته الاستعمار الجديد من أطماع في المنطقة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد