Al Jazirah NewsPaper Thursday  08/10/2009 G Issue 13524
الخميس 19 شوال 1430   العدد  13524
لوركا.. الشاعر القتيل.. وشاعر الأندلس الشاب وشاعر إسبانيا العظيم
(لم تنظم بعدُ القصيدةُ التي تنغرز في القلب كما ينغرز السيف)
خلدون هايل الجاموس

 

بعد 73 عاماً بدئ بالبحث عن رفات الشاعر الاسباني فيدريكو غارسيا لوركا بحكم قضائي

(وعرفت أنني قتلت..

وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس

فتحوا البراميل والخزائن

سرقوا ثلاث جثثٍ

ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط)

بهذه الكلمات كان قد تنبأ لوركا بأنه سيموت مقتولاً وبأن أحداً لن يجد جثته رغم البحث عنها لكنه لم يكن يدري بأن البحث يحتاج لقرار قضائي بعد 73 عاماً من يوم وفاته.

أصدرت المحكمة الوطنية، قرارها بوجوب البحث عن جثث الذين قتلوا خلال الحرب الأهلية الإسبانية بين عام 1936 وعام 1939، والتي أدت لسيطرة الجنرال (الديكتاتور) فرانكو على الحكم ومن أهم هؤلاء الضحايا شاعر اسبانيا فيدريكو غارسيا لوركا.

لوركا وحياته وأعماله موضوع خصب وعميق قدر العمق الروحي والإلهام السامي الذي كان يبدعه وفرصة الحديث عن لوركا ربما لا يكفيها مقال على صفحة جريدة لكننا نحاول أن نورد الأهم في حياته ومماته وحتى بعد موته. والتأثيرات التي لونت حياته القصيرة وأعماله العديدة.

لوركا لم يكن شاعراً شعبياًً فحسب بل كان رساماً وملحناً وعازفاً.

كانت ولادة فدريكو غارسيا لوركا Federico Garcia Lorca في الخامس من حزيران 1898 لأب وأم إسبانيين في منطقة فيونيت فاغودس Fuente Vaqueros في غرناطة، كان يعاني مشكلة بالنطق في طفولته وقد أخذت أمه التي كانت تعمل معلمة على عاتقها تعليمه النطق والكلام .إلا أن هذا لم يكن ليعيقه عن صنع عالمه الخاص إذ كان يصنع لنفسه مسرحاً وشخوصاً يعكس ما في خياله الخصب من ألحان وأفكار وحكايا منها ما كان يسمعها ومنها ما كان يخترعها بنفسه . انتقل لوركا مع والديه إلى مدينة غرناطة التي طالما عشقها ومنها إلى مدريد، حيث التأثيرات العالمية المحيطة تصب بهذه المدينة فتؤثر فيها وبمن يقطنها فقد كان الخليط الثوري السياسي والأدبي والفني يشكل أساساً هاماً لشخصية لوركا ومن ثم تأثيراً مباشراً بشخوص أبطال أشعاره ومسرحياته ومن هنا نهل ثقافته وخطوط شخصيته الرئيسية من خلال ارتياده المقاهي والجلوس مع الناس والأصدقاء والأهم من هذا هو إقامته في بيت الطلبة في مدريد وصلاته المتميزة مع الأدباء والشعراء أهمهم الشاعر الكبير خوان رامون خيمينيث الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 1956 والرسام الشهير سلفادور دالي وشاعر الثورة الكسندر البرتي...

دخل إلى عالم الغجر ليصنع منه أهم وأرقى موضوعاته الشعرية والمسرحية في عام 1918 طبع أول كتاب له بعنوان (انطباعات ومناظر) لكنه وفي عام 1921 اقتنع بنشر أول ديوان شعري له بعنوان (كتاب القصائد) بتحفيز من أصدقائه .فقد كان يحب أن ينشد أشعاره ويسمعها للآخرين على أن تطبع وهذا ما عبر عنه في أحد مقالاته بأن الشعر: (يحتاج إلى من ينقله..... يحتاج إلى كائن حي) لذلك تأخر ديوانه الثاني الذي أسماه (الأغاني ) حتى عام 1927 ومن اسم الديوان يتضح أن لوركا كان يدندن أشعاره ويسمعها للآخرين . ثم جاء وفي عام 1928 ظهور أهم ديوان له وأكثرها انتشاراً وشهرة وهو ديوان (حكايا شعبية) الذي سرعان ما انتشر في اسبانيا وكل الدول الناطقة باللغة الاسبانية ليبدأ لوركا مرحلة الانتشار والشهرة . ثم طبع ديوانه (شاعر في نيويورك) الذي كان مجموعة قصائد تضمنت تجربته في أمريكا التي هاجر إليها ولم يطل المقام فيها لأنها لم تكن مدينة أحلامه التي طالما حلم فيها رغم تأثره الشديد بما رأى هناك وقد ظهر لوركا بديوانه هذا بشكل مغاير عما كان عليه قبل هجرته فقد كان قبل ذلك يسكن مدينة غرناطة التي يعشقها، والتي كانت بالنسبة له هي ملهمته بجوها الحالم وطبيعتها الرائعة والتاريخ التي تحتضنه لكنه في نيويورك رأى ناطحات السحاب وضجيج التطور و(وول ستريت) فقد كان يسميها مدينة النار والحديد ولم يفوت فرصة زيارة أحياء السود الفقيرة ومعاناة التمييز العنصري فتأثر كثيراً بما شاهد وعاش، وقد عبر عن ذلك بقوله (أردت إن أكتب قصيدة العنصر الأسود في أمريكا الشمالية، وأردت أن يظهر الألم الذي يشعر به السود في عالم مختلف بالنسبة لهم، أنهم العبيد لما يخترع الرجل الأبيض من آلات).

وفي عام 2007 تم تحويل (شاعر في نيويورك) إلى مسرحية وتم اختيار قصر الحمراء في غرناطة لتقديم المسرحية عليه كي يعيش المتفرجون الجو الذي عاشه الشاعر خاصة أنه كان يبدي إعجابه وتعلقه بقصر الحمراء وحدائقه، والحضارة التي كانت تسكنه.

إلا أن رؤى لوركا لم تقف عند الشعر وحده لتعبر له عن مكنوناته وإبداعاته ولم يكن الشعر رغم جماليته وتجدده وانفعاله المتنامي الذي مد الشعب بوقود الثورة وحماسها لزمن عاش فيه بكل جماله وقبحه وكل ألامه وسعادته.

قال عنه الدكتور عبدالرحمن بدوي: (كان شاعراً يس تمد الوحي من الروح الشعبية الاسبانية بما تنطوي عليه من حرارة وعنف واحتفال للأسرار وإيغال في التهاويل).

فأراد تصوير أكثر من ذلك من خلال المسرح، فدخل عالم المسرح كاتباً يمزج فيها ذاك المدى والصمت وتلك الكلمات التي تتصارع لتولد انطباعاً يلامس الحقيقة والخيال معاً بعذوبة فائقة وصورة رقيقة لكنها لا تخلو من انفعالات المرحلة السائدة فقد كان الأبرز في جيل الثورة الأدبية والثقافية الاسبانية تربع على عرشه بلا منازع رغم السنين القليلة التي عاشها.

فكانت بدايته مسرحية (الفراشة المشؤومة) التي عرضت على المسرح عام 1920 لكنها لم تنجح كما أراد لوركا ليعود ويقدم مسرحيته الثانية (ماريا بنيدا) وهي عبارة عن دراما تاريخية وقدم بعد ذلك مسرحية (المرأة العاقر) التي نجحت نجاحاً لافتاً جعله يفكر في عرضها في كل مكان يمكن أن تصل إليه فكون فرقته الجوالة لتقديم مسرحياته في القرى والمدن الصغيرة .ثم كانت مسرحية (الإسكافية العجيبة) التي قدمها على المسرح عام 1930 وتلاها مسرحيات (غرام دون بولمبلن ) و (بلسيا في الحديقة) و(عرس الدم ) و(خراب سدوم) و(بيت برناردا البا) و(بوداسدي سانجر) التي هي ملخص معاناته وصور من حياته .أود الوقوف عند مسرحيته (عرس الدم) التي قيل عنها الكثير فالمسرحية تصور الحياة الأندلسية الشعبية بتقاليدها تأثره وولعه بالحضارة العربية الأندلسية:

لقد ربط بين الحضارة الاسبانية وجذورها الأندلسية العربية فتوليدو هي بالنسبة إليه طليطلة العربية وغرانادا هي غرناطة العربية ومن هنا كانت فكرة الثأر وغسل العار بالمسرحية صورة واضحة وانعكاس لطبيعة الحياة والناس. كذلك نجد ذلك التقارب والوعي لدى لوركا من خلال مسرحية ارما (المرأة العاقر) فالمرأة التي لا تنجب ليست لها القيمة والاحترام كالمرأة الولادة يكون لها التقدير كأم وزوجة وهذا يحاكي الثقافة العربية.

وقد سميت المسرحيتان بالإضافة لمسرحية بيت برناردا البا بالثلاثية الأندلسية.

وبالشعر يتضح تأثره بنظم الموشحات الأندلسية ويظهر بوضح في ديوانه (ديوان الغجر) كذلك في (ديوان التماريت) Diwan del Tamarit والتمارين تعني التمر ويت تضاف للكلمات بالاسبانية للدلالة على الجمع فلو ترجم يكون اسمه (ديوان التمور) كذلك نجد مفردات في بعض القصائد تبدأ بكلمة قصيدةcasida وتتكرر فيها كلمة غزل gacel.

لقد كان يتغنى بالحضارة العربية الإسلامية، ويفتخر بالأندلس وأنه أندلسي، فقد صرح وبلا مواربة في احد حواراته حين سأله الرسام باغاريا: (أتعتقد يا فدريكو أنها لحظةٌ سعيدةٌ تلك التي سلّم فيها الملوك العرب مفاتيح غرناطة إلى المنتصرين؟:

(غزو غرناطة العربيّة على يد الكاثوليك الإسبان, في العام 1492 لحظة شؤم, بالرغم من أنهم يقولون عكس ذلك في المدارس. لقد فقدنا حضارة جديرة بالإعجاب, شعرًا وعلم فلك وعمارة, وكياسة لا مثيل لها في العالم, لنسلمها إلى مواطنين بوساء جبناء وضيّقي الأفق يمثلون أسوأ بورجوازية في إسبانيا).

كما يورد الناقد (دومينيكيز) حين التقى به: (إن لهجته الجنوبيةَ القويةَ العذبةَ معاً، تخلُبُك بسحرها، إن لوركا يؤمن بالعرب، بل إنه أقرب إلى أن يكون عربياً من أن يكون أندلسياً).

فنرى باستمرار بأشعاره المفردات العربية الكثيرة لتكون قاموساً خاصاً به مثل القصر، ياسمين، زيتون، طلح، ليمون، خرشوف، عنبر كذلك عناوين بعض قصائده: ديوان، قصيدة غزل...

ربما لهذا وربما لشيء آخر كان الدافع لقتله خاصة أنه عرف عنه مناهضته للفاشيين ومناصرته للجمهورية، فوقف إلى جانب الجمهوريين على الرغم من نفي كونه سياسياً حين قال: (أنا أبداً لن أكون سياسياً، أنا ثوري وليس هناك من شاعر حقيقي إلا وكان ثورياً) مع ذلك كانت قصائده بمثابة شرارات تلهب حماس الشعب للوقوف بوجه الديكتاتور (فرانكو) وأنصاره . لقد كان لوركا قلب اسبانيا النابض بالحياة والذين قتلوه إنما أرادوا الإجهاز على الثورة التي تقف بوجههم لكنهم لم يكونوا ليعلموا بأنهم أحيوا الشاعر أكثر وأحيوا كلماته عبر التاريخ وبأنهم رووا بدمه جذور كلمات في أرض الأندلس لم تكن لتموت بموت صاحبها.

لقد حمُّل الجنرال فرانكو وأنصاره المسؤولية والاتهام بالوقوف وراء اغتيال لوركا وخصوم فرانكو الكثيرون صبوا جام غضبهم عليه وأضافوها على جرائمه الكثيرة لتكون الجريمة الأبرز لكن للعديد رأي مغاير إذ يرى الدكتور محمود علي مكي: (إن من قال: إن مقتل لوركا على يد ذلك النظام فهي تهمة باطلة فلم يكن للنظام مصلحة في قتله، بالإضافة بأن هذا النظام لم يكن قد تحددت ملامحه بعد، كما اتُهم أيضاً حزب الكتائب (الفالانج) بتدبير جريمة مقتل لوركا، وهي تهمة أشد بطلاناً لأن قادة هذا الحزب في غرناطة هم على وجه التحديد بذلوا كل الجهد لحماية لوركا لا لعلاقة سياسية تجمعهم بل لعلاقة شخصية تربطه بأسرة معروفة تنتمي لهذا الحزب).

لكن الجدل المحتدم حول موته مازال قائماً لكنني أرى إن شعر لوركا كان سبباً رئيسياً لقتله إلا أنه كان أيضا السبب الرئيس لخلوده، لقد تجاوز لوركا حدود غرناطة واسبانيا كلها ليصل إلى كل بقعة في العالم كذلك تجاوز حدود الزمن الذي عاش فيه ليخلد في ذاكرة الأدباء والمفكرين وحتى الثوريين في العالم فقد صارت كلماته نبراسا لكبار الأدباء والشعراء والمثقفين بالعالم يتداولونها ويناقشونها بل ويستمدون منها أفكارا وعبارات ودراسات لن تنتهي مادام في الكون متذوقون للشعر والفن.

ربما نحتاج للكثير الكثير للحديث عن شاعر غرناطة.لقد اغتيل لوركا وقد رثاه الكثيرون فقد رثاه نيروذا بقصيدة غاضبة أشد الغضب، نقم فيها على كل شيء.

كما رثاه الشاعر الكبير محمود درويش: بقصيدة حملت اسم (لوركا) قائلاً:

عفوَ زهرِ الدم يا لوركا وشمسٌ في يديكْ

وسليبٌ يرتدي نارَ قصيدةْ

هكذا الشاعرُ زلزالٌ وإعصارُ مياهْ

ورياحٌ إنْ زأرْ

يهمسُ الشارع للشارعِ قد مرّت خطاهْ

فتطايرْ يا حجرْ.

وهذا شاعر اسبانيا الكبير أنطونيو ماشادو يعزف لحن كلماته تمجيداً للوركا :

لقد رأوه يسعى،انحتوا، يا رفاقي، للشاعر،لحداً مقدوداً من حجر وحلم، في الحمراء، فوق نبعٍ، ينتحب فيه الماء،ويلغوا دوماً: هاهنا اقترفت جريمة في غرناطة، في غرناطته.

ترك لوركا وراءه ثورة وثروة لا تنضب رغم الفترة القصيرة التي عاشها ترك كلمات لا تندثر عبر تاريخ الأدب العالمي المعاصر وكون مدرسة تأثر بها كل من قرأ كلماته.



khldon@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد