Al Jazirah NewsPaper Thursday  15/10/2009 G Issue 13531
الخميس 26 شوال 1430   العدد  13531

المكان والذاكرة
عبدالرحمن بن سعود الهواوي

 

قد يولد الإنسان في خيمة أو في هجرة أو قرية أو مدينة والمشمولة بوطن، وهو قد ينمو ويكبر ويبقى مدة من عمره في مكان ولادته، ومن ثم تأخذه ظروفه الحياتية والمعيشية إلى التغرب عن موطنه الأصلي بحيث إنه ينتقل من مكان إلى مكان آخر،

أو من مدينة إلى مدينة أخرى، أو حتى من بلده إلى بلد آخر. وفي كل مكان يمكث فيه تعلق في ذاكرته وعقله بعض المؤثرات والذكريات المعينة والمرتبطة بالمكان. وقد لوحظ أن المؤثرات والتفاعلات التي يتلقها الإنسان في أول سنين عمره وفي مكان ولادته تظل محمولة في ذاكرته طوال عمره ويكون لها الصدى الأشد في ذاكرته؛ لأنه في هذه الفترة قد يكون محاطا بوالديه وإخوته وأهله وعشيرته، وقد تبدأ بوادر الحب تلعب في كيانه، وفي مرحلة متأخرة من سنوات عمره، ومهما كان مكانه بعيدا عن مكان نشأته الأولى فإن هناك شيئا ما في داخله كأنه يناديه ويحثه ويأمره إلى شد رحاله إلى مكانه الأول الذي بدأت حياته الأولى فيه، وكأن هذا الذي هو في داخله يريد منه أن يستكشف ما حل بالمكان مع مرور الزمن من تغيرات. وعندما يصل إلى المكان - وخصوصاً المنزل وما كان من حوله من دور - يبدأ المكان وكأنه يتكلم ويخاطبه ويقول: هنا وفي هذا البيت الذي أصبح أطلالا بالية كنت محاطا بوالديك وإخوتك، وخارج هذا البيت هناك كنت تلعب مع أولاد وبنات الجيران، وإذا كان الإنسان قد عاش في أول عمره في قرية فإن ذاكرته تستحضر له أصوات الإبل والغنم وأصوات السواني، وأذان المؤذن، وحفيف الأشجار وزقزقات العصافير.. وعندما يصحو من أحلام يقظته ويعود إلى واقعه فقد يغتم ويحزن؛ لأن كل تلك الأشياء قد ذهبت وولت، ولعب الزمان فيها ألعابه.. لقد كتب وقيل الشيء الكثير عن علاقة الإنسان بالمكان، ودور المكان في تنبيه الذاكرة، منذ القدم. وقد تطرق شاعر العرب الكبير أبو الطيب إلى هذه الظاهرة في بداية بعض قصائده فأبدع فيها غاية الإبداع، وسنورد هنا بعضا من أقواله، قال:

فَدَيناكَ من رَبْعٍ وإنْ زِدتنا كَرْبا

فإنك كنت الشرق للشمس والغربا

وكيف عرفنا رسم من لم تدع لنا

فؤادا لعرفان الرسوم ولا لُبا

فدى أبو الطيب الربع - المنزل - من الأسواء، مع أن هذا الربع زاد في كربه ووجده وهيج ذكرياته؛ لأنه كان مقر أحبته الذين كانوا يخرجون منه وإليه يعودون، واستغرب أبو الطيب كيف أنه عرف بقايا هذا المنزل الذي سلب عقله وقلبه، وقال أيضاً:

دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا

لأهله وشفى أنى ولا كربا

عُجنا فأذهب ما أبقى الفراق لنا

من العقول وما رد الذي ذهبا

سقيته عبراتٍ ظنها مطرا

سوائلا من جفون ظنها سحبا

بكى أبو الطيب في منازل أحبته بدمع رد ما وجب عليه لهم وشفاه من حبه ووجده عليهم، وما فعله ببكائه لم يقض حقهم عليه، وهو قد عطف بركابه ليزور هذا الربع، فأذهب ما كان باقيا من عقله بتجديده له ذكر أحبته، ولهذا سقى هذا الربع بدموع كأنها المطر سائلات من جفون كأنها السحب. وقال:

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه

بأن تُسعدا والدمع أشفاه ساجمه

طلب أبو الطيب من صاحبيه إذا هما أوفياء له بأن يبكيا معه عند هذا الربع بدمع ساجم - سائل - فإنه أشفى لغليل الصدر، كما ان الربع أشجى للمحب إذا درس - طسم - أي انه أشد لزائره. وقال أيضاً:

أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل

دعا فلبّاه قبل الركب والإبل

كأن الطلل - ما شخص من آثار الديار - دعت المتنبي فأجابها بدموعه قبل أصحابه وقبل الإبل. وقال أيضاً:

لك يا منازل في القلوب منازلُ

أقفرتِ أنتِ وهن منك أواهل

يعلمن ذاك وما علمت وإنما

أولاكما ببكى عليه العاقل

خاطب أبو الطيب المنازل وقال: لك في قلبي منازل مع أنك أقفرت وخلوت، ومنازلك في قلبي آهلة عامرة، وأنا أعلم أنك يا منازل لا تذكرين منازلك في قلبي لأنك قد أقفرت ولكنك جددتي ذكرياتي، ولذلك فقلبي أولى منك بالبكاء، لأنك جماد لا تعلمين ما حل بك من فرقة أهلك. وقال أيضاً:

لا تحسبوا ربعكم ولا طلله

أول حي فراقكم قتله

خاطب أبو الطيب أحبته فقال: لا تحسبوا منازلكم أول قتيل قتله فراقكم، فإنكم قد قتلتم نفوسا كثيرة، وأطلالاً كثيرة، إذا رحلتم عنها، وأقفرت منكم. يقول العكبري:.. فجعل رحيلهم عن الربع موتاً له، لأنه زال جماله عنه بزوالهم، والأمكنة إنما حياتها بالعمارة - بالناس -، فإذا خلت من العمارة، فهي ميتة، ولهذا قيل: من أحيا مواتا. يريد: أرضا خرابا فعمرها، وسمي الداثر الخراب مواتا، فلقد أحسن أبو الطيب، بذكره قتل الربع بالخلو عنه. وقال أيضاً:

أيدري الربع أي دم أراقا

وأي قلوب هذا الركب شاقا

لنا ولأهله أبدا قلوب

تلاقى في جسوم ما تلاقى

تساءل أبو الطيب وقال: هل يدري هذا الربع أيا من الوقوف به أراق دمه، مما كلفه من البكاء فيه؟ فهذا الربع لنا ولأهله الراحلين عنه قلوب تتلاقى أبدا بما هي عليه من محبة وشوق في أجسام متنافية متباعدة وغير متلاقية. وقال أيضاً:

بكيت يا ربع حتى كدت أبكيكا

وجدت بي وبدمعي في مغانيكا

فعم صباحا لقد هيجت لي شجنا

وأردد تحيتنا إنا محيوكا

خاطب المتنبي الربع وقال: يا ربع، يا منزل الأحباب، بكيت في مغانيك التي كان بها أهلك، حتى فنيت وانقطع دمعي، ويقول العكبري:.. وقوله (بي): أي بنفسي بكيت، حتى أذهبتها، فلو كنت مما يعقل لساعدتني على البكاء، فقد بكيت حتى فني دمعي أسفا عليك، وتذكرا لأهلك. وقوله: عم صباحا: كلمة تحية، أي أنعم صباحا أيها الربع، فلقد هيجت لي أحزاني تذكرا لما سلف لي فيك من وصل الأحبة، وأنا مسلم عليك فاردد علي السلام.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد