Al Jazirah NewsPaper Thursday  15/10/2009 G Issue 13531
الخميس 26 شوال 1430   العدد  13531

محمد بن ناصر الراشد: ذكراه باقية في خاطري
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف

 

يُجِدُّ النأي ذكرك في فؤادي

إذا وهِلَتْ على النأي القلوب

ما من شك أن ذكريات الصغر وعصور الطفولة مع لدات الإنسان ورفاق عمره من أعذب الذكريات وأحلاها، تبقى خالدة في جوانب النفس لاصقة في جدران أحاسيسها، لا يمحوها كرّ الجديدين ولا تعاقب الأزمان، فهي محبة صافية لا تشوبها المجاملة ولا التصنع، فالإنسان حينما يكبر يفرح برؤية أقرانه وإن لم يسبق له تواصل أو ترابط محبة، ولكن مجرد أنه عاصره في مقتبل عمره المديد، حامداً المولى أن مد في عمره، وأبقى أناساً من لداته يلحظهم بين حين وآخر ليأنس بهم، ولتخفيف وحشة الوحدة والغربة، وتقوية آماله في الحياة الدنيا، ولاسيما من تقدم به العمر، وفقد الكثير من أصحابه ورفاق دربه، وربما يدور بخلده معنى هذا البيت للشاعر العربي فيردده في خاطره متحسراً:

إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهم

وخلفت في قرن فأنت غريبُ!

فالموجب لكتابة هذه الكلمة الوجيزة تذكر صديق الطفولة والعمر كله، وعد شطر من محاسنه، ومن سيرته العطرة، إنه الأستاذ الفاضل محمد بن ناصر الراشد - أبو بندر - الذي ولد في حريملاء وترعرع بين أحضان أبوين كريمين، ودرس في إحدى الكتَّاب بمدينة حريملاء عندما بلغ سن السابعة فأتم حفظ القرآن تلاوة وحفظاً لبعض أجزائه، وكان من حسن حظي وسعادتي أن جمعتني به الدراسة، فلامس حبه شفاف قلبي منذ التقينا في المدرسة وأعمارنا ما تتجاوز السابعة، فكنا نجلس متجاورين ومتحابين لقراءة القرآن وحفظه أمام - المطوع - فنتنافس في حفظ بعض قصار السور فيسبقني في الحفظ لِما وهبه الله من قوة الذاكرة وصفاء الذهن فحبه ينمو ويتجدد بتجدد الأجدّين على مر السنين:

وكل خليل يُخْلِقُ النأي حبه

وحبك ما يزداد إلا تجددا

فلقد فُجعنا برحيله على عجل على إثر مرض ألم به في آخر حياته، وقد سبق أن أمر خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود - رحمه الله - بعلاجه بإحدى مصحات الولايات المتحدة الأمريكية، وظل هناك فترة من الزمن حتى أعيا الأطباء علاجه ففرت روحه الطاهرة إلى بارئها في سماء تلك البلاد النائية عن بلاده ومراتع صباه وعن أهله وأحبائه، وهذا مصداق لقول الله سبحانه وتعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (سورة لقمان: 34)، وذلك في يوم الاثنين من شهر ذي القعدة 20-11-1411هـ ثم نقل جثمانه إلى مكة المكرمة، وصلي عليه بالمسجد الحرام ثم أودع بمقابر (العدل) - رحمه الله - وقد خيم الحزن على أبنائه وبناته وأسرته بل وجميع محبيه وموظفيه وعارفيه، وقد جُبل على سماحة النفس وطيب المعشر والاتصاف بالكرم مبكراً، أذكر جيداً أنه كان يحضر إلى المدرسة ومعه قطعة من الحلوى نادرة الوجود بمنطقة نجد في تلك الحقبة الزمنية البعيدة، حيث كان والده ناصر بن عبدالعزيز من هواة الأسفار والرحلات إلى مناطق الخليج وإلى الهند فيحظر معه (تنكات) من الحلوى لذيذة الطعم كأنها (عبيط مر).

ولا أزال إلى الآن ذاكراً طعمها.. فاستمر في كرمه الحاتمي طيلة حياته في جميع المواقع والأماكن التي يحل بها، وكان في شهر رمضان يملأ حوشه من الخراف ليذبح منها لضيوفه المعتمرين، فهو مشهور بذلك مع جميع الطبقات التي يسعد بإكرامهم، فكرمه وكرم أسرته كثير العدد طبيعي، فلقد جمع بين كرم المال وكرم الجاه.. ولله قول القائل:

ولم أر كالمعروف أما مذاقه

فحلو وأما وجهه فجميل

فالريال لا يطيب له إقامة في خزينته البتة بل يفر إلى صنائع المعروف.. حتى غادر الوجود حميدة أيامه ولياليه، ولقد تتدرج في الأعمال الوظيفية قبل السن النظامي وذلك بعد انتقاله من حريملاء إلى الرياض؛ حيث عمل بالمحكمة الشرعية بجانب خاله الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد ولازمه في جلساته، وحضور تدريسه لبعض طلبة العلم بالجامع الكبير بالرياض، فكانت تلك الفترة طيبة الأثر في تنوير ذهنه وتوسعة مداركه، ثم انتقل إلى المنطقة الشرقية فأمر الشيخ عبدالله بن عدوان بتعيينه مأمور ترحيلات بالمالية في 5-6-1370هـ وفي 1-4-1373هـ انتقل إلى مكة المكرمة ليعمل مساعد كاتب ضبط بالمحكمة الكبرى، بعد ذلك انتقل مديراً لمدارس تعليم البنات بأم القرى مكة المكرمة في 11-9-1382هـ وكان له نشاط ملحوظ بافتتاح عدد من مدارس البنات وتطويرها وتزويدها بالكوادر الوظيفية والتعليمية، وكان محل ثقة الرئاسة العامة فأعطته الصلاحية في ترشيح ما تحتاجه تلك المدارس من معلمات وإداريات ومستخدمات، وكان عطوفاً على المساكين وقليلي الدخل بتعيين الكثير منهن، ومراعاة ظروفهم المعيشية والاجتماعية، فهو لين الجانب مع جميع المراجعين ومن هم تحت إشرافه فكلمة (لا) يقلُ مرورها على لسانه مما جعل قلوب أهالي مكة وما حولها تميل إليه حباً واحتراماً، حتى إن رجال الأعمال والبنوك يقدرونه ويثقون فيه ثقة كاملة.

يقول لي - رحمه الله - في مرة من المرات أثناء حضوري إلى مكة المكرمة في شهر رمضان المبارك إن الرئاسة قد تأخرت بصرف رواتب الموظفين والمعلمات، وحرصا منه على راحتهن وتسهيل سفرهن اقترض ثلاث مئة ألف من شركة الكعكي وصرفها لهن فوراً - جزاه الله خيراً. ومن جميل أعماله الإنسانية التي لم يسبق لمثلها أبداً، أنه أثناء سيرنا معه في حافلة كبيرة من مكة إلى جدة فقد أشار أعرابي إليه بالتوقف ومعه قطيع من الأغنام، ورجاه أن يركب غنمه معنا فبادره بالموافقة برحابة صدر وطيب نفس وهذا في منتهى العطف والرحمة، وله مواقف مشرفة يصعب عدها وذكرها، وكنت والزميل الكريم الشيخ عبدالله بن إبراهيم بن سليمان الراشد ابن خاله - شفاه الله - حينما نأتي إلى مكة حاجين بيت الله يؤكد علينا أن نسكن عنده بالدور المخصص للزوار والضيوف، فيقضي جل وقته بيننا، ويذهب بنا أحيانا إلى جدة، للاستمتاع بشواطئها الجميلة، والوقوف على موانئها وغير ذلك من المناظر التي تؤنس الأبصار، ثم يعرج بنا على مطاعم الأسماك وهي أكلتنا المفضلة حتى تطيب خواطرنا منها ثم نعود مسرورين - غفر الله له ولوالديه - وكلمتنا هذه الوجيزة - كتأبين، وضرب من الوفاء لأبي بندر وتذكر لأفعاله الجميلة، ولقد طوق أعناق الرجال والنساء بأفضاله وبكرمه، وبأخلاقه العالية، وعزاؤنا فيه أنه قد خلف ذرية صالحة تدعو له وتحيي ذكره بالأعمال المشرفة وبتكريم القاصدين لهم، ومما حز في نفسي لحظات الوداع الأخيرة عندما هم بالذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فأخذ يلحظني ويطيل النظر ويكفف دمعه، وكأنه يستجمع شيئا من ذكرياتنا معه، ويقول سأسافر ولا أعلم بما في ضمير الغيب ولا ما الله صانع فيّ، فتمالكت نفسي في تلك اللحظة الحزينة وبداخلي ما به من لوعات الفراق - غفر الله لأبي بندر - وأسكنه عالي الجنان، ولقد أجاد الشاعر جرير حيث يقول:

يا عين جودي بدمع هاجه الذكر

فما لدمعك بعد اليوم مدخرُ

(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)

- حريملاء


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد