Al Jazirah NewsPaper Saturday  24/10/2009 G Issue 13540
السبت 05 ذو القعدة 1430   العدد  13540
بين الكلمات
من رماد الكتاب العربي..
عبدالعزيز السماري

 

لماذا يتم إحراق وإتلاف ودفن الكتب في التاريخ العربي..؟، ولماذا كانت هذه الظاهرة علامة فارقة في مختلف العصور والأزمنة الإسلامية والعربية، ولماذا يشعر الحاكم والفقيه وعالم الدين بالتوجس من الكتاب، ومن الذين يقرؤون ويكتبون خارج المنهج، ولماذا توهم بعض الولاة في أزمنة سابقة بأن الكتاب فيه تهديد لمفهوم الدين الصحيح وأمن الدولة؟، ولماذا يشعر المفكر المسلم قبل وفاته بذنب ما سطرته أقلامه، ليقرر بلا مقدمات، وفي رابعة النهار أن يُحرق كتبه أو يدفنها معه!..

وإذا حفظ التاريخ للمرحلة العباسية الأولى بدء عصر الانفتاح على الثقافات الأخرى وترجمة الكتب وتشجيع النشر والتأليف، فقد كان آخرها وبالاً على المعرفة، فقد تكالب أعداء العلم والفكر على الكتاب، وقادوا أطول حركة منظمة ضد المفكرين والأطباء والعلماء، لتبدأ سلسلة طويلة من حرق الكتب ومن ملاحقة الفلاسفة والمثقفين والعلماء على مدار قرنين إلى أن وصلت الحال العربية إلى مرحلة انقرض خلالها إنتاج الكتب، ليرجع الإنسان العربي إلى وسائله البدائية في التعبير عن الرأي، وإلى ديوان العرب، وذلك من أجل البوح عن تجاربه الإنسانية، والتعبير عن عواطفه ومشاعره تجاه بيئته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لكن ذلك أيضاً تمت مطاردته تحت شعار الذود عن العقيدة الصحيحة، ليتم اختصار الفكر في أدنى مراحل الانحطاط العربي في وسائل الرسائل وإجبار العباد على نفي ثقافة الأسئلة وامتثال الطاعة العمياء..

بدأت قصة حرق الكتب من القرن الأول الهجري، وبالتحديد من السنة الثانية والثمانين للهجرة، بكتاب (فضائل الأنصار وأهل المدينة) الذي كتبه ابان بن عثمان بن عفان، وعندما وصل الكتاب إلى عبدالملك بن مروان عن طريق ابنه سليمان بن عبدالملك، وكان ولياً للعهد، رفضه عبدالملك، بل أحرقه، لأن ابن مروان لم يكن يعترف بفضل الأنصار في الفتوحات والجهاد..

محمد بن زكريا الرازي يعتبر أول طبيب في التاريخ أوجد منهج التدوين السريري في تاريخ الطب في العالم، وهو الإسلوب الذي لا يزال متبعاً إلى الوقت الحاضر، وتعترف الحضارة الإنسانية بفضل هذا العالم وقدراته المبهرة، وكان له كثير من الإنجازات ومنها تقرير (الزكام المزمن عند تفتح الورود)، وغيرها من الكتب والأبحاث العلمية، وكان أيضاً أول عالم في التاريخ تعرض للضرب بأحد كتبه، فقد ضربه أحد ولاة خراسان بأحد كتبه حتى نزل الماء من عينيه..

يذكر التاريخ أن 35 مفكراً وعالماً أحرقوا كتبهم في تاريخ المسلمين، وهي بدعة يمتلك حقوقها بامتياز علماء العرب والمسلمين، ومن هؤلاء أبو حيان التوحيدي وأبو عمرو بن العلاء وابن سينا والماوردي، وإن اختلفت دوافعهم، وكان من أهمها الخوف من دوافع الانتقام بسبب ما كانوا يدونونه في كتبهم، وكان حرق الكتب خياراً لتغييب آرائهم وأفكارهم..!

علل التوحيدي إحراق كتبه اقتداءً بعلماء سبقوه، مثل سفيان الثوري الذي نثر كتبه في الريح بعد تمزيقها وقال: (ليت يدي قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفاً)، وكان قد خشي من سطوة المهدي العباسي وبطشه فاختفى عن الأنظار وظل متستراً عن المهدي في البصرة حتى وافاه الأجل المحتوم سنة 161هـ-777م....

وألقى الفقيه الزاهد داود الطائي الذي كان يُعرف ب(تاج الأئمة) بكتبه في البحر، وأبي سليمان الداراني الذي أحرق كتبه في تنور وقال: (والله ما أحرقتك حتى كدتُ أحترق بك)، وألقم الزاهد يوسف بن أسباط كتبه غاراً في جبل وسدّه عليها، وأوصى أبي سعيد السيرافي ابنه أن يُطعم كتبه النار.. يُروى أنه كانت لعمرو بن العلاء المتوفى سنة 154ه، كتب ملأت له بيتاً حتى السقف، ثم إنه تنسك فأحرقها..، وقد جسد أبو كريب الهمداني المتوفى سنة 243 ه-857 م أغرب أحداث إتلاف الكتب، وكان من محدثي الكوفة الأجلاء، وهو من مشايخ النسائي، وقد أكثر من رواية الحديث. وقد ورد عنه أنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث، وكان قد أوصى قبل وفاته بأن تدفن كتبه معه.. فدفنت!! كان آخر النكبات، وأكثرها إمضاءً على أزمة أمة، حدث في آخر فصول الحضارة الإسلامية، إذ تم إحراق كتب ابن رشد، ذلك العالم الذي أضاء أوروبا بفكره المستنير، بينما أطفأت نيران كتبه آخر فرصة أمام العرب للدخول إلى التاريخ من أوسع أبوابه، فقد كان كتابه (الضروري في السياسة) والمسمى أيضاً تلخيص كتاب السياسة لأفلاطون (أي الجمهورية)، أول مشروع ثقافي في طريق الإصلاح والتغيير، وكان قد خص جزءاً من الكتاب في شؤون الحكم والسياسة، وقد تعرض فيه بالنقد المنهجي لأنظمة الحكم الاستبدادي مستدلاً ببعض أقوال أفلاطون، وبمنهج الرشد الإسلامي في مرحلة النبوة وما بعدها..

قد كانت تلك الرؤية الإصلاحية سبباً في نكبته ومحاكمته، ثم سجنه ومصادرة كتبه وإحراقها، ولم يكن هذا الحدث نكبة ابن رشد لوحده بل كانت نكبة لحضارة العرب والمسلمين، حيث استطاعت أوروبا أن تستفيد من فلسفة ابن رشد الإصلاحية، وأن تسترشد بها في طريق الخروج من عصور الظلام..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد