Al Jazirah NewsPaper Friday  30/10/2009 G Issue 13546
الجمعة 11 ذو القعدة 1430   العدد  13546

نوازع
هواجس ابن عبد ربه
محمد بن عبد الرحمن البشر

 

يبدو أن صاحب العقد الفريد الشاعر الأديب معلم الخلفاء أحمد بن عبد ربه، مع تدينه وحدة طبعه، تدهمه هواجس وأفكار بين حين وآخر فيعبر عنها نثراً أو شعراً، وربما تدهمنا نحن أهل هذا الزمان جل أو بعض تلك الأفكار، لكننا نعجز عن مجاراته في القول، أو محاكاته في التعبير، فننطوي مع الحرقة تارة، أو التمتمة تارة أخرى، ومنا من يلهي نفسه بالنوم أو الملهيات الحديثة، وبعضنا الآخر يلجأ إلى ربه ويثق فيه ثقة الموقن، فتسري الطمأنينة إلى قلبه سريان الماء الزلال.وذات يوم أرسلت إليه زوجته رسالة ذاكرة أن عينيها ذرفت الدمع رحمة به لبعده عنها، وفراقه إياها، فأفصحت شاعريته عن بيتين من الشعر، قال فيهما:

الجسم في بلد والروح في بلد

يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد

إن تبك عيناك لي يا من كلفت بها

من رحمة فهما سهماكِ في كبدي

ومر بقصر من قصور قرطبة لبعض الرؤساء، فسمع منه غناء أذهب لبه، وألهب قلبه، فبينما هو واقف تحت القصر إذ رش بماء من أعلى القصر فطلب رقعة، وكتب فيها:

يامن يضن بصوت الطائر الغرد

ما كنت أحسب هذا الضن في أحد

لو أن اسماع أهل الأرض قاطبة

أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد

فلا تضنّ على سمعي ومُنَّ به

صوتاً يجول مجال الروح في الجسد

ولو عاش في زماننا لما احتاج إلى أن يمر بقصور الرؤساء، حتى يسمع هذا الغناء، فتهيج نفسه، ويظهر شيطان شعره، فقد منحنا الله الهاتف الذي من خلاله يمكن سماع من تطرب النفس إلى سماع صوته فلا يُضنُّ (يبخل) عليه بذلك الصوت العذب، وأما إذا كان ممن يستخدم الإنترنت أو الجيل الثالث في الجوال فقد يرافق الصوت الصورة، فيناغي من يحب صوتاً وصورة.وهو مع ما هو فيه من جاه، وقرب من أمراء بني أمية بالأندلس الذين أغدقوا عليه الأموال حيث كان مداحاً للخلفاء والقادة، متزلفاً بشعره ولا سيما الخليفة عبد الرحمن الناصر وبعده المنتصر، إلا أنه كان متذمراً دائماً، ومن ذلك قوله في أهل عصره:

وأيام خلت من كل خير

ودنيا قد توزّعها الكلاب

كلاب لو سألتهم تراباً

لقالوا عندنا انقطع التراب

أعجب من رجل مثله، يقول قوله، وهو من هو، وزمانه أزهى عصور الأندلس ولم يخل من الخير وأهله، لكن التذمر للمتذمر ديدن لا يفارقه، ومنهج لا يجانبه، وسواء نال نوالاً أو كسب مالاً فيظل يعيش بما تمليه عليه نفسه.

وذات يوم طلب من أحد أهل قرطبة مالاً، ولم يحقق طلبه، فقال:

حجارة بخل ما تجود وربما

تفجر من صم الحجارة ماء

ولو أن موسى جاء يضرب بالعصا

لما انبجست من ضربه البخلاء

لا أعلم كيف يحتاج مثله، وهو الذي جمع من المال ما لم يجمعه سواه من أهل زمانه بسبب تعليمه لأبناء الأمراء وقربه من الخليفة عبد الرحمن الناصر وابنه المنتصر، ومدحه لهما، مع وافر علمه وغزارة أدبه، مما يقربه إليهما، ولا سيما إذا علمنا أنه يوصف بقلة الإنفاق.وأورد في كتابه العقد الفريد شيئاً عن ذم الزمان، ومنه أنَّ مسلم بن يزيد بن وهب دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: أي الزمان أدركت أفضل، وأي الملوك أكمل؟ قال: أما الملوك فلم أر إلا حامداً أو ذاماً، وأما الزمان فيرفع أقواماً ويضع أقواماً، وكلهم يذم زمانه، لأنه يبلي جديدهم، ويفرق عديدهم، ويهلك كبيرهم، قال الشاعر:

أيا دهر إن كنت عاديتنا

فما قد صنعت بنا ما كفاكا

جعلت الشرار علينا خياراً

ووليتنا بعد وجه قفاكا

أما أبو جعفر الشيباني فقال: أتانا أبو مياس الشاعر ونحن في جماعة، فقال: ما أنتم فيه وما تتذاكرون؟ قلنا نذم الزمان وفساده، قال: كلا، إنما الزمان وعاء، وما ألقي فيه من خير أو شر كان على حاله، ثم أنشأ يقول:

أرى حللاً تصان على أناس

وأخلاقاً تداس فما تصان

يقولون الزمان به فساد

وهم فسدوا وما فسد الزمان

هذا هو ابن عبد ربه الأديب العالم الشاعر المعلم، يقول وينقل لنا شيئاً عن رأيه في أهل زمانه، لكنه لو فتح الصفحة الأخرى لزمانه لوجد خيراً كثيراً، فالأزمنة كلها مليئة بالخير والشر، والبثور والسرور. جعلنا الله من أهل الخير والداعين له، والساعين إلى إصلاح الذات، وبها يصلح المجتمع.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد