Al Jazirah NewsPaper Friday  30/10/2009 G Issue 13546
الجمعة 11 ذو القعدة 1430   العدد  13546

العدوى
د. محمد بن إبراهيم الحمد *

 

العدوى في اصطلاح الأطباء: هي انتقال مرض من مصاب به إلى شخص آخر سليم.

وهناك أمراض مصنفة في قبيل الأمراض المعدية، بل بعضها يحرص فيه على عزل المصاب بها عزلاً تاماً، لئلا يعدي غيره؛ لكون تلك الأدواء سريعة العدوى، شديدة الأثر.

والكلام هاهنا ليس عن ذلك النوع من العدوى، وإنما هو عن نوع آخر، ألا وهو عدوى الأخلاق، فالأخلاق تعدي، وتنتقل، وتسري سريان النار في الهشيم بمجرد الملابسة، والمجالسة، والقرب، والإعجاب.

فإذا كانت أخلاقاً مرذولة كان أثرها على من يقرب من أصحابها وشيكاً، والعكس، فمجالسة السفل، والثقلاء، والبخلاء، والكسالى، والعابسين، وقليلي المروءة، وما جرى مجرى تلك الطباع - تورث التشبه بأصحابها، وتمثلها ولو على المدى البعيد.

قال الحكيم العربي:

ولا ينفع الجرباء قرب صحيحة

إليها ولكن الصحيحة تجرب

ومجالسة الأكابر، وذوي النفوس الطيبة، والمروءات العالية - تورث تلك الطباع.

قال بشار بن برد في مدح خالد بن برمك:

لمست بكفي كفه أبتغي الغنى

ولم أدر أن الجود من كفه يعدي

فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى

أفدت وأعداني فأتلفت ما عندي

وقال أبو تمام:

ولو لم يزعني عنك غيرك وازع

لأعديتني بالحلم إن العلا تعدي

ولهذا فإنه يحسن بمن بُلي بمعاشرة من لا بد له من معاشرته ممن لا ترتضى طرائقهم - أن يحترس غاية الاحتراس من سريان أخلاقهم إليه، فللصحبة أثرها البالغ في سلوك المرء، فالصاحب ساحب، والطبع استراق، فمن جالس الأشرار وعاشرهم فلا بد أن يتأثر بهم ويقبس من أخلاقهم، فمجالستهم تنساق بصاحبها إلى الحضيض، فكلما همّ بالنهوض والتحلي بمكارم الأخلاق، والتخلي عن مساوئها - عوقوه، وثنوه، فعاد إلى غيه، واستمر على جهله وسفهه.

وإذا وفِّق بصحبة من هم على الطريقة المثلى في الفضائل والمكارم - فليحرص على سبر أحوالهم، والاقتداء بهم، والسير على منوالهم.

فإذا اختلف المرء إلى هؤلاء، وأكثر من لقائهم وزيارتهم - ولو لم يصاحبهم باستمرار تخلق بأخلاقهم، وقبس من سمعتهم ودلهم.

يروى أن الأحنف بن قيس قال: (كنا نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلم منه الحلم كما نتعلم الفقه).

ولا يلزم أن يكون هؤلاء الذين يختلف إليهم من أهل العلم، بل قد يوجد من العوام من جبل على كريم الخلال وحميد الخصال.

قال ابن حزم: (وقد رأيت من غمار العمار من يجري في الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه، ولكنه قليل جداً).

* الزلفي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد