Al Jazirah NewsPaper Friday  06/11/2009 G Issue 13553
الجمعة 18 ذو القعدة 1430   العدد  13553
سجود المخلوقات
رياض بن سليمان بن صالح السلطان *

 

لماذا لا نقدح زناد التأمل الكرة بعد المرةّ حتى نفحص أسرار الخلق، فتخرج الآيات لنا كأنها أزواج، وأصناف من نبات شتى! فتحيا العبر التي سكنت قبر الجهل، وعجز البحث، وقصور الإدراك!

لقد أصبحت محاجر عيوننا قبراً، ولحداً لكثير من الآيات التي تسرح في السماء كالطيور، والنجوم، والأقمار.

وكالطرائد التي تشرد في البراري، والصحاري لم تجد قلوباً تتفكر فيها، وتتوسع في صفاتها حتى تنكشف لها الكثير من عظمة الصانع الخالق - تبارك وتعالى- ولن نستطيع أن نبعث الحياة فيها، حتى تستيقظ قلوبنا بالتفكر بأسراب الآيات، ومعجزات خلق ربنا المتواترة من الأزمان السابقة، والتي ستبقى إيقاعات جمالية صافية للأزمان اللاحقة لأنها تدل على عظمة الله تعالى.

أخي القارئ الكريم عندما تتابع معي قراءة سطور هذا المقال ستعلم أننا نعيش سباتاً فائقاً عميقاً أذهلنا عن نبش كنوز العجائب الإلهية، والأسرار الربانية في خلقه من خلال آياته الكونية، والشرعية.

تأمل هذه الآية التي ركزت وغرزت العبرة في كل موجود خلقه الله سبحانه تعالى، ألا وهي (سجود المخلوقات) لله التي اتضحت إجمالاً في الآية التالية، وفي غيرها من الأدلة مفصّلة مبيّنة:

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء) (سورة الحج: 18) أنا وأنت - أخي القارئ الكريم- نسجد كما أمرنا الشارع الحكيم على سبعة أعظم في الصلاة، وغيرها على (الكفين، والقدمين، والوجه).

(عن ابن عباس رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أُمرنا أن نسجد على سبعة أعظم). أخرجه البخاري.

لكن الآية السابقة تخبرنا أن هناك غير الإنسان يسجد لله تعالى (َالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) (سورة الحج: 18) يا تُرى كيف تسجد هذه المخلوقات لله تعالى؟ وسنتناول كيفية سجودها بالتفصيل:

أولاً : (َالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ) هذه الأقمار تسجد كما ورد في الآية الماضية وفي غيرها، ولكن بكيفية اختص الله بعلمها، فلم تبين النصوص كيفية سجودها، ولكن هي في حقيقتها مخلوقات مربوبة مسخرة تسجد، وتسبح بحمد الله تعالى.

ثانياً: (وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ) فهذه تسجد (بظلها) فإذا أشرقت الشمس أصبح لها ظلٌّ تجاه الغرب، وإذا زالت الشمس إلى الغرب أصبح لها ظلٌّ تجاه الشرق بهذا الظل تسجد (َالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ)! وكل ما له ظل فهو يسجد بظله لله تعالى والأدلة على هذا:

1 - قال تعالى: (أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) (سورة النحل:48).

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها: جمادها وحيواناتها، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال، أي: بكرة وعشيا (صباحاً، ومساءً) فإنه ساجد بظله لله تعالى.

قال مجاهد: إذا زالت الشمس سجد كلُّ شيء لله عز وجل (لأن كل شيء يكون له ظل، فيسجد بظله لله جل وعلا ).

2 - قال تعالى : (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) (سورة الرعد:15).

معنى هذا: أن كل شيء خلقه الله تعالى فهو يسجد له إما طوعاً كسجود المؤمن لله، أو كرها: كسجود الكافر، ولذا قال أحد العلماء: (سجد المؤمن بظله لله طوعاً، وسجد الكافر بظله لله كرها).

قوله: (بالغُدُوِّ) في الصباح، و(الآصَالِ) آخر النهار لأن كل شيء يكون له ظل في هذين الوقتين، والمخلوقات تسجد بظلها لله كما في الآية السابقة (وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ).

* أما سجود (الشجر) لله، فقد أخرج الترمذي وغيره: (عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيتني الليلة وأنا نائم كأني كُنت أصلي خلف شجرة، فسجدتُ، فسجَدَت الشجرة لسجودي، وسمعتها وهي تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وضع عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود.. قال ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم سجدة، ثم سَجَدَ قال ابن عباس: فسمعته، وهو يقول: مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة).

* أما البحر، فيرى أبو غالب الشيباني رحمه الله في تفسير ابن كثير أنه يسجد بأمواجه (وقال أبو غالب الشيباني: أمواج البحر صلاته).

كما قال بعض السلف: إن صرير الباب تسبيحه، وخرير الماء تسبيحه، تحت تفسير قوله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (سورة الإسراء:44).

* أما (الدواب) الحيوانات، فهي من المخلوقات التي تسجد، وتسبح بحمد الله وتذكره، وتعبده بدلالة الآية، والحديث الذي أخرجه الطبراني في (المعجم الكبير): (عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومٍ على دواب لهم، ورواحل وهم وقوف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اركبوها سالمة، وانزلوا عنها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم ومجالسكم، فلرب مركوبة (من هذه الحيوانات) خير من راكبها وأكثر ذكراً لله منه).

* أما الملائكة تلك المخلوقات العظيمة التي قال الله عنها: (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (سورة النحل: 49-50)، فماذا ورد عن سجودها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم (عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، إن السماءَ أطَّتْ (أي: إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أقلها حتى أطت) وحق لها أن تئط (أي: حق لها أن تثقل، لكثرة ما فيها من الملائكة)، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفُرشاتِ..). أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه.

ألا ترى كيف بدأت تنظر للجمادات، والمخلوقات حولك كأنها تنطق، وكيف أن رؤيتها، والتفكر فيها أصبح أنشودة عذبة في عينك، وقلبك، ونفسك، وإحساسك.

قال تعالى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (سورة آل عمران: 83).

* الرياض



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد