Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/11/2009 G Issue 13557
الثلاثاء 22 ذو القعدة 1430   العدد  13557
وزارة التربية والتعليم (مئة تجربة لا تكفي!!)
خالد عبد الكريم الحمد(*)

 

قيل لأحدهم: لقد فشلت مئة مرة حتى تحققت لك أهدافك، فقال: بل مررت بمئة تجربة ومع كل تجربة استفدت من أخطائي حتى وصلت إلى النجاح.. بهذه العقلية المثابرة أطرح للقائمين على التربية والتعليم أن ينظروا وراءهم إلى مئات التجارب التي مر بها من عبروا قبلهم متاهات هذا الجهاز

والتي سيستفيدون منها كثيراً لو وضعوها أمامهم مع غيرها من التجارب على مكاتبهم يبحثون فيها ويفرزون منها خلاصات لا شك أنها ستفرز الكثير فيأخذون منها السمين ويرمون وراءهم منها الغث الذي امتزج بالسمين فأخذت منه عقولنا وتشرَّب منه تكويننا الثقافي الكثير والكثير مما يجعلنا اليوم نبحث عن مخرج للقفز بالعملية التربوية والتعليمية نحو تحقيق أهداف يكاد الكثيرون من الآباء والأمهات يصفونها بالحلم.

تحتاج مناهجنا إلى تطوير لا يسطر على الورق خطط نمسك منها بطرف وطرفها الآخر تتقاذفه الرياح. يحتاج المعلم والمرشد والإداري إلى تطوير ومهارات، إلى معرفة وسلوك، نحتاج إلى متابعة التقنية وتحديث استخداماتها، والسعي لاستقطاب المهرة من الكوادر.. ويحتاج الطفل منذ مراحله الأولى إلى متابعة بعين ثاقبة ترعي مواهبه، وترصد ميوله وتغذيه من المعرفة والسلوك والمهارات والثقافة كما تغذي جسده تغذية حقيقية.. ولكل ذهن غذاؤه.. فقد نجد بين تلك البراعم العالِم، والمبدع، والمخترع، والمفكر، والطبيب، والرسام. وكم خسرنا فيما مضى منهم الكثير.. راح العالِم حارساً على مبنى ينام من الليل أغلبه، وراح المبدع نتيجة عدم الرعاية الجدية لمواهبه إلى موظف لجوج في أحد الأقسام الإدارية يأتي آخر الموظفين ويخرج أولهم، والمخترع إلى ثرثار في المجالس لا يتوقف عن الثرثرة ولا يترك لمتحدث فرصة حديث، والمفكر تائه يقول قولاً هو من قولنا وليس من قولنا، والطبيب إلى عالة على من حوله عنده لكل داء دواء من الوصفات والأعشاب ولكل غذاء عنده محاذيره.. والرسام المبهر واحد من أولئك الذين ترونهم يخربشون على الحيطان ويشوهون وجوه المدن الجميلة.. هكذا تضيع الفرص والمكاسب في ليل ليس له صبح، وطريق ليس له نهاية.. ولعلنا الآن على قرب شعشعة صبح سنحمد بعده السري.. أقول ذلك من مبعث الظن الحسن والثقة فيما عرفته قبلاً.. وأنطلق منه فيما أكتب.

الحركة التعليمية في هذه المرحلة تستحثنا لأعلى المغامرة التي تفضي إلى التهلكة ولكن على المغامرة الجريئة الواثقة من أن ما يحمله القائمون على مسيرة التعليم أمانة ترتبط بمصير أمة ومستقبلها.. وأحسب أنهم اليوم يحملون هذه الأمانة ولديهم الكثير من العزم والإرادة مما يستطيعون القيام به.. فتح آفاق جديدة للتلميذ وسبر مواهبه وسقايتها ووضع عين لا تغضى ولا تغفل عن ما تتغذاه عقول النشء وطرق تقديم الغذاء التربوي والمعرفي لهم.. ومن تجربة قصيرة لأبنائي في الصف الأول من المرحلة الابتدائية بمدرسة أهلية.. أقول في المدرسة التي يتعلم بها (ابني) حيث وفق بمعلم ذي تجربة كبيرة وقدرة عالية في التعامل مع الصغار حصل الطفل في العام الماضي على مهارات ممتازة ولم يكلفنا كبير عناء في متابعته، فخلال ثلاثة أشهر فقط بدأ يقرأ أسماء المحلات والمتاجر.. وأنا عائد به من المدرسة وبتهجئة فائقة.. ثم بعد ذلك صار يعرف الألف الممدودة والمقصورة وينطق الكلمات بحركاتها بلفظ سليم ويميز بين اللام الشمسية والقمرية.. ويكتب بخط جميل علَّمه معلمه الخطاط كيف يكتب الحرف على السطر ويدوره بشكل جميل شأنه شأن أقرانه بالصف.. ومما يريح كثيراً أنني أجده يحب معلمه باحترام ومهابة بلا خوف أو وجل.. ومع أسئلته الكثيرة واللحوحة حول كل شيء يتسع صدر معلمه له ويمنحه الوقت لإشباع تلك الرغبة العارمة للمعرفة دون تضييع وقت أو رد الطفل رداً خشناً يحبطه ويثبط همته وعطشه لمعرفة الكثير من الأشياء.. وقبل نهاية العام الدراسي المنصرم بدأ يقرأ في مكتبتي قصص الأطفال القصيرة قراءة صحيحة ويسأل كثيراً عن كل كلمة لا يعرف معناها فإذا عرف معناها شرح لي باستمتاع ما فهمه من القصة.. كان يومه في الفصل متعة وترانيمه في البيت الأناشيد التي يحفظها ويرددها بلذة عارمة.. تلك تجربة لم أجدها في المقابل بمدرسة البنات والمؤسسة واحدة.. فرق كبير بين هذا وذاك.. والذي قصدته من هذا السرد الممل هو أننا بحاجة إلى نموذج المعلم الذي علم (ابني) لا إلى نموذج المعلمة التي علمت (ابنتيّ الصغيرتين).. في العام الدراسي الماضي.

لقد لعبت الصدفة والصدفة فقط لابني وهيأت له ما لم تهيئه للكثيرين غيره في المدارس الحكومية والأهلية، ومنهم (أختاه الصغيرتان).. فالغالب هو نموذج المعلمة التي علمت (ابنتيّ الصغيرتين) بين المعلمين والمعلمات وليس نموذج المعلم الذي علم (ابني)، ذاك الذي وهبته الأقدار لفصل واحد بين آلاف الفصول.

وحتى يظل المنجز إبداعا يبقى، لا منجزاً ينسى.. وهو مطلب حرص عليه من مضوا من قبل وتركوا وراءهم هذا الحمل الثقيل الذي ينوء بالعصبة.. فالإبداع مطلب ليس بالهين وإلا حققه من مروا عابرين. وهنا نقول حتى نحقق الإبداع والنجاح بعد مئة تجربة بل مئات التجارب الماضية لا بد وأن ننظر إلى تجارب آخرى مع تجاربنا.. ففي اليابان مثلاً تجربة فريدة وفي غيرها تجارب ناجحة.. وبيت القصيد هنا أن دراسة هذه التجربة وتمحيصها وتحديد سلبياتها وايجابياتها وربطها بغيرها من التجارب وعجنها بتجربتنا سيفتح لنا آفاقاً جديدة لنبدع فيما نروم.. إذ لسنا بحاجة إلى أخذ تجربة بعينها وتطبيق ما نراه إيجابياً منها واستبعاد ما نراه سلبياً.. ولا أن نضع تجاربنا وحدها في الميزان لنخلص منها بنجاحات متواصلة.. وليتفكر المتفكرون.

إن التغيُّر السريع والنمو المعرفي والتقني متصل ومتسارع لا يترك لنا متسع من الوقت.. بل إنه من السرعة أضحى يفوق حد التصور.. فالحاضر ثقيل والمستقبل مقتحم والزمن واثب، وملاحقة دوائر المعرفة والمد الثقافي والتعليمي مضنٍ ومرهق للتوازن النفسي والاجتماعي.. يقول ألفين توفلر في كتابه: (صدمة المستقبل): (كثيرون من يعتريهم أحساس مبهم بأن كل شيء يتحرك بسرعة أكبر، الأطباء والمديرون على حد سواء يشكون دائماً من أنهم لا يستطيعون مواكبة آخر التطورات في مجالات اختصاصاتهم ولا يكاد يخلو اجتماع أو مؤتمر من الخطب التي يتردد فيها الحديث عن التحدي الذي يمثله التغيير).

ويقول الاقتصادي كينيث بولد نج: (لقد ولدت في منتصف التاريخ البشري، لأن ما حدث منذ ولدت حتى الآن يماثل تقريباً كل ما حدث قبل أن أُولد).. وإذا كان صحيحاً فإن تسعين بالمئة ممن أنجبتهم البشرية من العلماء على طول تاريخها يعيشون في العصر الحاضر.

والخلاصة هنا أننا نحتاج ضرورةً لا ترفاً أن نعيد النظر في كل ما يحيط بالحركة التربوية والتعليمية ونأخذ بها إلى المواجهة المضنية الشاقة التي تشحن عناءها بالمتعة والقلق المبدع. نرمي طموحاتنا على منبت الشمس.ونسقي من هميل عقولنا كل أرض يباب لتسمق عليها أشجاراً بثمار يانعة، وتكسوها براعم وزهور تتضوع بعطر وشذا. ولنسعى فالشمس ليست على بعد من شقشقت إضاءة الفجر.

أننا مع تحدي التطوير لاستكشاف عقول تبهر في المستقبل منجزاتها نواجه تحد آخر هو السرعة المذهلة في عالم متغير لا بد أن نواكبها مهما كانت ضريبتها، فالشعلة تلتهب والمد الثقافي والتقني في المعمورة واقع تجاوز حدود الخيال.

بقي أن نقول إن القائمين على التربية والتعليم يحتاجون اليوم إلى صبر وجهد وقلق وتحمل.. فبالصبر نعني أن من يحمل الأمانة لا بد أن يصبر على عنائها ومتاعبها.. وللتعليم أمانة لها من العناء والمتاعب ما يحتاج إلى الكثير الكثير من الصبر، وبالجهد أن يكون مضاعفاً ينهك العقل والجسد ولكنه ينتهي بمتعة الإنجاز.. وبالقلق ذاك القلق المشتعل كالأفران التي يخرج منها الخبز الطازج والذي لا تستطيع أن تصف طعمه ورائحته، بل تقدمه لمن يتناوله ساخناً لذيذاً ليعرف طعمه ورائحته من يتناوله، وبالتحمل أن يكون للقائمين على التربية والتعليم قدرة فائقة على مواجهة وامتصاص الثرثرة، وصدر متسع للكثير من نقد الآخرين وهو كثير بلا شك فيه من النقد للنقد أكثره، ومن النقد البنَّاء أقله الذي يجب إلا يمر عابراً دون نظرة فاحصة تطلب المفيد لتفيد.. وأحسب أن ما أطرحه هنا هو اجتهاد يؤخذ مع النقد البنَّاء لا ثرثرة تذروها الريح.

قبل البداية

إن حملنا القلق المضيء شمعة تنير الدرب سنواكب التغيير ونحتويه مهما كان خارج نطاق التحكم.

(*) مدير عام فرع معهد الإدارة بمنطقة مكة المكرمة سابقاً



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد