Al Jazirah NewsPaper Tuesday  10/11/2009 G Issue 13557
الثلاثاء 22 ذو القعدة 1430   العدد  13557

نجم عزيز غاب عن دنيانا
الدكتور محمد صفاء بن شيخ إبراهيم حقي (العلواني)

 

نعزي البادية والحاضرة برحيل الشيخ عبد الله بن حميدي آل جربا - رحمه الله -

حكم المنية في البرية جار

ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يُرى الإنسان فيها مخبراً

حتى يرى خبراً من الأخبار

تحشرج الصوت، وذرفت المدامع، وبكى القلب، وتكدر الخاطر، والنفس غشاها الحزن، فأشغل اللسان بذكر الله وألح في الدعاء وحوقل وسبَّح وكبَّر الذي لا يموت.. كانت لحظات مؤلمة حين ألفيته على السرير الأبيض، في المستشفى التخصصي بالرياض، وأنفاسه تتقطع، ولسانه ينطق بكلمات غير مسموعة، وعينه تومئ إليَّ، ويده بيدي يشد عليها، والبار العظيم نجله الأكبر حميدي (أبو فيصل) في الطرف الآخر يمسح على يده تارة، ويرفعها ليقبلها مراراً تارة أخرى، يبتسم ويقول مازحاً: (غداً يا أبوي أحضر المزين، وسنزيل الأوكسجين كما أمر الطبيب...) ثم يمسح وجهه المشرق بأنامله برقة وتحنان ويقبل جبينه... لقد أبكى الفؤاد ببره وحنانه..

وأنا أنظر إليه وأنفاسه المتقطعة تقطع مني الأوصال، ونظراته الحزينة تدمي القلب، الشهم الكريم الأبي في هذا الوضع.. العزاء أن هذه هي حال الدنيا

طُبعت على كدر وأنت تريدها

صفواً من الأقذاء والأكدار!!

قفزت الذاكرة بي حين دعاني الشيخ الجليل إلى منزله قبل ثلاثين عاماً، بعد أن سمع بقدومي إلى الرياض، وما أن حل بي المقام في منزله العامر بالأحباب والضيوف الذين لا ينقطعون ولا يخلو مجلسه منهم، وكان أول مرة ألتقي به، غير أنه الوفاء مع الآل، ومحبة الخير للغير، وعظمة النفس، وكبرياء الذات، والرغبة في خدمة الآخرين، والتضحية لأجلهم، دفعه إلى هذا التكريم، وما أن أخذت مكاني في مجلسه بين زواره الأعزاء حتى بدأ بقصص وحكايات الآل والأصحاب، وحتى غاص في التاريخ إلى الأعماق، بذاكرة وقادة، ولهجة رصينة، وعرض مثير للأحداث، ووصف دقيق للوقائع.. يتدبر ثم ينطق، يغوص في أعماق التاريخ ليلتقط الدرر والجواهر، وليستخلص الدروس والعبر، ويعرضها بإتقان.. يضفي على الأحداث روحه المرحة حتى لا يدب الملل إلى نفوس مستمعيه.. وكل هذا أنا مندهش من طرحه ونهجه وأسلوبه وتقديره لمجالسيه.. فحرصت من أول لقاء أن لا أحرم النفس من مجالسته ولا من سماع حلو كلامه، وكنت أنتهز كل فرصة لهذا الغرض..

قادني إلى مجلس سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله متعه الله بالصحة والعافية، بعد أن حصن حبه في قلبي، فكم مرة حدثنا عن هذا المليك العظيم وعن مآثره وشيمه، وكم مرة أبان لنا عظمته وحبه لمواطنيه وللإنسانية، وهو الخبير به لقربه منه يحفظه الله، وأذكر يومها أنه قدمني بعبارات رفع بها هامتي.. وتشرفت برفقته إلى مجلس سمو الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود حفظه الله، جد نجله سمو الأمير المنصور فزادني رفعة بما قال وفاء للآل.. كان منبعاً للقيم وفياً باراً، كما كان رسولاً للكلمة الطيبة، يصنع المعروف كل حين، متواضع بعزة، كبير من غير تكبر، نلجأ إليه كلنا في كل آن ليحل معضلاتنا ويشفع لحاجاتنا، ما كان يتوانى عن فعل الخير، وكانت يده ممدودة، والعون منه لا ينقطع قدر الطاقة، أحببناه وأحبه كل من عرفه، وهام به كل من التقاه.

إن نبأ فقدك أيها الراحل عنا اليوم خسارة لنا ولكل محبيك، وإن خبر رحيلك وفراقك زادنا حزناً، وإن كان الموت يحصد في اليوم الواحد الآلاف من بني البشر، غير أنه اليوم بالتأكيد خطف من بيننا نجماً أضاء كثيراً.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون..

لا حزن إلا أراهُ دونَ ما أجدُ

وهل كمن فقدت عيناي مفتقدُ؟!

رحمك الله يا سليل المجد، لقد فقدناك أيها العم العظيم.. ولقد فقدك كل باحث عن القيم، عزاؤنا أنك غدوت ضيفاً عند الله فأبشر بالخير يا عبد الله.. عزاؤنا أن شهود الله في الأرض يشهدون لك بالفضل ويدعون لك بالعفو والمغفرة.. فأنعم بإذن الله في جنة الخلد، وأنعم بجوار من أحببتهم من النبيين والشهداء الصادقين والصالحين...

الملتقى في جنان الخلد إن قبلت

(مني) صلاةٌ وطاعاتٌ وأذكارُ

وعزاؤنا أنك تركت معنا من يحمل قيمك وعظيم خلقك ونبلك من الأبناء والأحفاد والآل الكرام.. أدامهم الله ومتعهم بالصحة والعافية.

سألتك يا عزيز الكون

بما أحببت من أسماء

أسكنه فسيح القبر

إلهي لا ترد رجاء


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد